بِقَدْر الصعود يكون الهبوط فإياك والرتب العالية وكنْ في مكانٍ إذا ما وقعتَ تقوم ورجلاك في عافية جاء بعض فقهاء اللغة بتفسير لهذين البيتين بأنهما يدعوان إلى تثبيط همم الناس، وعدم السعي لطلب العُلى، والركون إلى الدعة والسكون في الحياة العملية. وجئتُ بتفسير يحاكي الواقع المعاصر في مجتمعنا، وهو أن من صعد إلى أعالي المراتب الوظيفية، ثم سقط فجأة فلن يتأثر بذاك السقوط، لأنه قد حسب حسابه واحتاط له بحيث يكون وقوعه ناعما لن يطال رجليه ويديه، فهو قد أحضر اللباد أو مطرحة اسفنج لتُقلل من تأثير السقوط، أو تجعله لا يحس بالسقوط بتاتا، لأنه كان يملك إمكانات لفعل ذلك. مثل تلك الحِكَم الشعرية على كل حال تُحذر من العجب والتعالي والغرور فهو دليل السفه ونقص العقل ودنو النفس.. لا يزال الزهو بالمنصب يجعل المرء ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار فيقول له: أنت فعلت وفعلت حتى يلقي في روعه أنه لا مثيل له ولا نظير له فيعجب بنفسه فيغتر فيهلك وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى، لأن السعادة إنما تدرك بالسعي والطلب والمعجب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه لا يتقدم لمكرمة ولا يرتقي لمنزلة. السنين الأخيرة أعطتنا نماذج مشاهدة ومُثبتة في التولية والعزل، ودخلت أكثرها ساحات علوم الصحة النفسية والجسدية، فأرتنا من أخذ منه الاكتئاب مأخذه عند فقدان مركز إداري، وربطه بمركزه الاجتماعي.. وظهرت له أشباح ندماء وأصحاب يتفرقون عنه. لكنني رأيت البعض الآخر لازمهُ الوجع أثناء الوظيفة وبعدها.. فأثناء التمتع بالمركز يطلب منه الأهل والمعارف العون الأدبي، بدفع قضية أو إنجاز موضوع.. فإن استجاب فسيفتح الباب، وإن تلكأ فسيفقد ود أصحابه وأقاربه ومن توسموا فيه (الفزعة).. ومن هنا يُصاب بأعراض القولون والسكر والضغط. هذا بعد أن صعد.. وقلت لأحد معارفي الذي ظهر في عرفه أنه هبط: تأكد أن أعراض الأرق وحرقان المعدة والقولون سيغادرانك بإذن الله إلى غير رجعة، لأن علاجك جاء من هبوطك من مكانك العالي.. وما كنتُ أعرف أنه يوافقني إلا من ابتسامته العريضة. العلاقة الحقيقية ينبوع طيبة ووفاء وصحة وعافية. قرأتُ عن بعض المرضى وكبار السن الذين ينعمون بصداقات الحب وروابط الوفاء أنهم أكثر مقاومة للأمراض النفسية والجسدية من غيرهم. أصدقاء المنصب سيتوارون منذ سماعهم بعزلك، مثلما حضروا يهنئونك عند توليتك.. وأصدقاء الروح معك قبل وبعد. قال شاعر شعبي: كنّك سراج البيت للنور شبّوك ويلا انقضى اللازم حدا الربع طفّاك