النسخة: الورقية - دولي الولايات المتحدة هي المكان، والزمن يوم 11 أيلول (سبتمبر)، ولكن من العام 1893. نعود بالذاكرة، لنستحضر الصرخة التي أطلقها سوامي فيفاكاندا، الباحث ورجل الدين الهندوسي، في البرلمان العالمي للدين في ولاية شيكاغو، حين قال: «لم يكن ثمة دين، على الإطلاق وفي أي وقت، ديني أنا ودينك أنت، ديني القومي أو دينك القومي، لم توجد قط أي أديان كثيرة، هناك الدين الواحد الأحد فقط ونقطة على السطر. ثمة دين لا نهائي وُجد منذ الأزل وسيظل موجوداً إلى الأبد. وهذا الدين يعبّر عن نفسه في البلدان المختلفة بطرق متباينة. لذا يتعين علينا أن نحترم جميع الأديان. ويجب علينا أن نحاول قبولها جميعاً قدر ما نستطيع». هذه الصرخة، لو تلقفتها المرجعيات الدينية والسياسية، لما وصلنا الى هذا التردي والانحطاط. فالاستعلائية الناجمة عن القراءة الحرفية للنص الديني، أو التتريثية للتراث، ساهمت في إنتاج شبكات الوهم المعرفي التي تمنح المسلم خاصية الانفراد في امتلاك الحقيقة. من هنا كانت النظرة الى الآخر نظرة الى من ضلّ الطريق، وعلى المسلم واجب التبليغ والهداية! فكان أن برز اتجاهان، الأول: دعوي، يحض على تغيير «المنكر» بالقول و «الموعظة الحسنة». والثاني: جهادي متطرف: يدعو الى تغييره باليد. والمحصلة، أن شكّل الأول مناخاً وأرضية، أدت بالثاني الى إطلاق آليات تكفير المجتمعات، تحت مسوغ «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، فيما اقتصر الخلاف على الطريقة لا على المبدأ. ومثلت استعادة الخلافة منذ سقوطها عام 1924، السبب المباشر وراء نشأة الإسلام الحركي المعاصر، وفي مقدمها تنظيم جماعة الإخوان... انطلاقاً من قناعة تفترض أن هذه المجتمعات أهملت دينها أو «ارتدت»، وفق رؤية أنصار «الحاكمية» التي أسسها أمير الجماعة الإسلامية في الهند البريطانية عام 1941، الشيخ أبو الأعلى المودودي، والتي وجدت طريقها الى المنظّر الإخواني سيد قطب. لاحقاً، توسع نشاط هذا النسق من التنظيمات والجمعيات، إلى حيث توجد الجماعات والجاليات الإسلامية، في مسعى تبشيري يجري بالتوازي بين «ديار الإسلام وديار الكفر»، فكانت حصة الأسد من نصيب الغرب عملاً بتفسـيرهم الحرفي للآية: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يـعطـوا الجزية عن يد وهم صاغرون». وهذا يفسر ذهاب بعض أئمة المساجد في الدول الأوروبية الى تخيير الأوروبيين بين الإسلام أو دفع الجزية!، كما فعل إمام مسجد فيينا السابق. وفي قول لإمام آخر: «المسلمون سيصبحون غالبية في هولندا بعد خمسين سنة، عندها يمكن إقامة الشريعة». خطورة توجه كهذا لا تكمن في رفض الاندماج وحسب، وإنما في السعي الى إحلال هوية مكان أخرى، مع ما يرافقها من زعزعة استقرار المجتمعات المضيفة، بحيث تولّد معها مشاعر الخوف والكراهية للآخر. هذا الأمر دفع بالنخب الغربية الى طرح سؤال محوري، يدور في عقول 500 مليون أوروبي والمسلمين المقيمين معهم، أي نحو 20 مليوناً، وهو عما إذا كان هذا الفصل الأخير من التفاعل بين الحضارة الأوروبية والعالم الإسلامي سيتمخض عن أوربة المسلمين في أوروبا أم عن أسلمة الأوروبيين؟ والجواب أتى بقناعة آخذة بالتشكل على مستوى واسع، بأن «البديل لهوية أوروبية غير جذابة، في غياب خطط وسياسات استيعابية ناجحة، سيكون هو الإسلام على نحو متزايد، لذا فإن أوروبا ستكون أفضل حالاً، إذا ما عادت إلى اعتماد سياسة تعزيز الولاءات القومية والوطنية، بدلاً من الإجهاز عليها». وبذلك يكون التوجه التبشيري والجهادي المتفرع عنه، قد ساهم في شكل رئيس في ولادة ظاهرة الإسلاموفوبيا وانتشارها، وتحديداً بعد وقوع أحداث 11 أيلول المخزية، حيث أعادت الاعتبار الى نظرية «صراع الحضارات». فالتحول المتسارع في ديناميات الإسلام الدعوي أوجد تطوراً تنظيمياً عابراً للدول، نحا بها الى التشدد، حفاظاً على هويتها من الضياع، في زحمة النواميس المتعددة. على هذا التحول، نشير مثالاً لا حصراً، إلى «جماعة التبليغ والدعوة» التي أسسها الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي (1886-1945) في الهند، إذ سُجل أكبر نشاط لها في المناطق التي يسكنها المسلمون. وهو ما دفع سوايا سانغ، الزعيم السابق للجناح الثقافي لأسرة المنظمات الهندوسية، الى القول: «يتطلع المسلمون نحو بلاد أجنبية معينة، على أنها أمكنتهم المقدسة، ويطلقون على أنفسهم لقب الشيخ والسيد! كيف بات هؤلاء يشعرون بالانتماء الى هذه الأمكنة والمسمّيات؟ لعل السبب، هو أنهم قطعوا كل صلة لهم بجذورهم السالفة الممتدة في هذه الأرض، واندمجوا عقلياً مع المعتدين». مع تولي الإبن الشيخ محمد يوسف (1917-1965) إمارة الدعوة، توسع نشاطها ليشمل كل أقاليم الهند وينتقل بعدها الى العالم العربي، ومن ثم الى بريطانيا التي شكلت منطلقاً لأوروبا، وصولاً الى الولايات المتحدة، مبتدئةً بنيويورك، ثم واشنطن وبوسطن وبلتيمور، وسان فرانسيسكو وديترويت التي عُقد فيها اجتماع كبير للجماعة. يقول الشيخ يوسف: «المرحلة المقبلة هي القيام بشن الحرب ضد قوى الكفر، والتي بها تأتي فترة ازدهار الإسلام والمسلمين، ولقد تم رسم الخطة، وعليكم أن تقوموا بالعمل. فارسلوا الجماعات إلى أنحاء العالم لإعلاء كلمة الله». هذا المنحى الإلغائي للآخر شكّل انتكاسة بنيوية، وضعت معها الإسلام أمام مفصل حضاري، تتوقف عليه طبيعة أو استمرارية وجوده. فإما أن يشارك الآخرون في ما نراه أو أن يُنبذوا. فهل من وقفة جريئة تعيد الاعتبار الى معتقدات الآخرين، قبل فوات الأوان؟ * كاتب سوري