إلى ما قبل عقدين ونصف من الزمن، كانت دول أوروبا الشرقية، التي انتفضت على أنظمتها الشيوعية والتي وصفها وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد بـ(أوروبا الجديدة) في تصورات الأميركيين، «مجموعة من الأمم الشجاعة المحبة للحرية والحليفة الوفية للولايات المتحدة والغرب». آنذاك سارعت واشنطن إلى ضم هذه الدول إلى حلف الأطلسي لكي تصبح الحصن المنيع ضد اتساع خطر عدم الاستقرار في الشرق الأوسط والتوسع الروسي. الآن لم تعد التصورات هي ذاتها، وشهدت تقلبات وتبدلات عميقة أصبح الحديث عنها صريحاً بعد أن ظل محصوراً حتى الآن في المجالس السياسية في العواصم الأوروبية الغربية الكبرى، وذلك تزامناً مع تحول الكثير من هذه البلدان (الحليفة الاستراتيجية) إلى حصان طروادة لروسيا في الاتحاد الأوروبي. فعلى سبيل المثال، لا يكف رئيس الوزراء الهنغاري وزعيم حزب (فيدس) اليميني الحاكم فيكتور أوروبان، الذي تربطه علاقة وثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن تهديد الاتحاد الأوروبي بأن حكومته ستعرقل تمرير أي مقترح أو خطة للمفوضية الأوروبية بإنشاء اتحاد أوروبي للطاقة، والذي يحتل موقعاً مركزياً في استراتيجية بروكسيل لإضعاف التأثير والنفوذ الروسيين على أوروبا من خلال تحكم الكرملين بشحنات الغاز الروسي التي تشكل 40 في المائة من احتياجات أوروبا للطاقة. وليس هذا فحسب، إذ تتزايد الأدلة والوقائع عن قيام غالبية دول هذه المنطقة التي كانت في المدار السوفياتي، باستغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين الغرب وروسيا لعقد اتفاقيات اقتصادية منفصلة في انتهاك فاضح للعقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا بسبب عدوانها على أوكرانيا وضمها القرم إلى الاتحاد الروسي.هل يعني هذا أن بوتين نجح في تقسيم أوروبا إلى معسكرين مؤيد ومناهض لروسيا في داخل الاتحاد؟ وهل سيقود هذا في نهاية المطاف، مع وصول الأحزاب الشعبوية والقومية المتطرفة التي تقيم علاقات وثيقة مع الكرملين إلى الحكم في هذه البلدان، إلى بداية نهاية المشروع الأوروبي مع (البريكزت) ورغبة دول أخرى في استنساخ النموذج البريطاني. يجيب الباحث في الشؤون الروسية ومدير «مركز الاستراتيجيات الليبرالية» في صوفيا إيفان كريستيف، بأن «سلوك حكومات دول أوروبا الشرقية والوسطى ومجتمعاتها يتحدد من عاملين: تجربتها العملية خلال المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديموقراطية، ومصالحها العامة، وليس من الذكريات المؤلمة والمشاعر الشخصية عن الماضي الشيوعي». ويضيف: «المصالح الاقتصادية والموقع الجغرافي تنتصر الآن على ذكريات الماضي القريب ،لاسيما وأن هذه الدول ترتبط اقتصادياً مع روسيا بشكل أكبر مما مع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى». ولفهم دوافع تبدل المزاج المجتمعي تنبغي مراجعة الأرقام ومؤشرات التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي تسجل فجوة عميقة بين مداخيل سكان هذه الديموقراطيات الحديثة مقارنة بالدول الغربية بعد مضي نحو ثلاثة عقود على انهيار أنظمتها الشيوعية. ووفقاً لتقرير صادر عن البنك الأوروبي للتنمية والتعمير، فإن «ثلثي سكان هذه الدول (33 في المائة) ارتفعت مداخيلهم ولكن بوتائر أبطأ بكثير من دول مجموعة السبع الغنية»، فيما قال 44 في المائة فقط بحصول تحسن محسوس في مداخيلهم العامة»، مشيراً إلى «أن تركز الثروة في يد حفنة من الأثرياء الكبار يؤثر سلباً في الحصول على فرص متساوية ومتكافئة، كما يتسبب في ردود فعل غاضبة ضد الأحزاب السياسية والمؤسسات الاقتصادية التي تتبنى الاقتصاد الحر». روسيا وهواجس الأوروبيين هذه التغييرات الجوهرية في الأمزجة الشعبية تتضح بقوة في نتائج استطلاعين للرأي في اثنتين من الدول الشيوعية السابقة هما بولندا وبلغاريا، اللتان تميزتا تاريخياً بموقفيهما المتعارضين حيال روسيا. الأولى، وهي دولة كبيرة نسبياً في مساحتها الجغرافية وعدد سكانها ورأيها المسموع في الاتحاد الأوروبي، مقتنعة بالكامل بأنها حققت الكثير جداً من المكاسب من سقوط الشيوعية، فضلاً عن أن البولنديين يعتبرون في غالبيتهم نظام بوتين وحشياً وقبيحاً، ويشير استطلاع للرأي أجراه (معهد تحليل الاتجاهات الاجتماعية) في وارسو، إلى أن «البولنديين في غالبيتهم العظمى يعدون الأزمة في أوكرانيا تهديداً مباشراً لأمن بلادهم القومي». أما بلغاريا، التي هي الأخرى عضواً في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي لكنّ تجربتها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة أكثر إشكالية من البولندية، لأنه يمكن وصفها بأي شيء إلا بالناجحة، يظهر من استطلاع للرأي أجرته (وكالة ألفا ريسرتش) أن «غالبية البلغار لا يعتبرون الحرب في أوكرانيا تهديداً اساسياً، بل أن احتلال وقضم القرم لم يغير من موقفهم الإيجابي من روسيا ويميلون إلى تحميل أميركا المسؤولية لما حصل في أوكرانيا وليس روسيا، وفي المقابل يعبرون عن مخاوفهم الجدية من الهيمنة التركية والإرهاب الإسلامي وليس الروسية». إلا أن أكثر ما يثير الانتباه هو أنه على الرغم من مخاوف البولنديين من روسيا، رفض العدد الأكبر منهم في الاستطلاع تزويد أوكرانيا بالسلاح والتقنيات الحربية، بل وحتى طالبوا بعدم السماح للأوكرانيين بالسفر بحرية إلى دول الاتحاد الأوروبي، هذا فيما فضلت غالبية البلغار التحالف مع الغرب على روسيا، ورأى 70 في المائة منهم أن السياسة التي تنتهجها الحكومة حيال أوروبا عقلانية ومتوازنة. في تفسيره لهذا التناقض بين الموقفين، يقول كريستيف: «البولنديون لديهم شكوك مفهومة حيال الضمانات الأمنية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي والناتو، وهذا يعود إلى تجربتهم الدرامية مع الضمانات الغربية، ومخاوفهم الجدية من تركهم وحيدين في مواجهة عدوان روسي محتمل، إضافة إلى ما عانوه من عواقب دعمهم حرب الولايات المتحدة ضد العراق». أما البلغار الذين يتعاطفون مع روسيا فما زالوا يحتفظون في خزين ذاكرتهم الفظائع التي عاشوها خلال الحقبة السوفياتية، ما يدفعهم إلى عدم قبول نظام بوتين كنموذج للحكم في بلادهم، ولكن بعضهم يشاطر الروس عدم ثقتهم بالغرب، ويرفضون العقوبات على روسيا لكونهم عانوا من عقوبات الغرب على يوغوسلافيا قبل أكثر من 20 عاماً». شرق أوروبا والإرث الشيوعي هل تتخلى أوروبا الشرقية والوسطى المابعد سوفياتية شيئاً فشيئاً عن النموذج الديموقراطي الليبرالي؟ هذا السؤال أكثر ما يشغل مراكز البحوث الاستراتيجية الأوروبية منذ أن بدأت ظاهرة أوربان القومية المتطرفة تنتشر في دول المنطقة، وانتقلت إلى بولندا وسلوفاكيا وتشيكيا والآن إلى حد ما بلغاريا، التي يجمع بينها إرث شيوعي مشترك، وفي كرواتيا تولت السلطة حكومة قومية محافظة يمسك حقيبة الثقافة فيها وزير لا يخفي إعجابه بنظام الأوستاشي المؤيد للنازية أثناء الحرب العالمية الثانية على حد قول مدير البحوث في معهد الدراسات السياسية (سيانس بو) في باريس جاك روبنيك. مع ذلك، من المبكر الاستنتاج بتبلور نموذج سياسي غير ليبرالي في أوروبا، على خلفية صعود نفوذ اليمين المتطرف في أوروبا الغربية، حيث تغني هذه الديموقراطيات الناشئة خارج السرب بإطلاقها شعارات ترفع لواء السيادة الوطنية والمشاعر القومية والحصانة المسيحية ورفض التعدد الثقافي والقيم الديموقراطية. وكان الروائي التشيكي ميلان كونديرا قال إن «هذه الدول تنتهج سياسات تجعلها شرقية ملحقة بروسيا السوفياتية، وفي الوقت ذاته تنسب ثقافتها إلى الغرب الأوروبي»، وهذا التنازع برأيه هو في «صلب مأساة هذه الدول». ترى السياسية الألمانية من حزب الخضر فيولا فون كرامون في حوار أجرته معها إذاعة (دويتشلاند فونك) الألماني،» أن «بوتين لا يريد الحرب مع الغرب، لكنه ببساطة يحتاج إلى عدو خارجي لكي يدعم وجوده في السلطة». وقالت: «ما يسعى من أجله بوتين الآن وبقوة وحماسة فائضتين هو تهديم الاتحاد الأوروبي». واضافت: «بالنسبة إلى بوتين، ليست الولايات المتحدة، بل الاتحاد الأوروبي هو العدو الرئيسي لروسيا، ولهذا لا يدخر جهداً في سبيل دق إسفين بين الأوروبيين أنفسهم». في السياق ذاته، أدان بيان صادر عن اجتماع عقده رؤساء حكومات الدول الأعضاء مع قادة الاتحاد أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، محاولات روسيا السافرة لزعزعة النموذج الأوروبي من الداخل، كما أدان رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك في مؤتمر صحافي في بروكسيل، «التدخلات الروسية في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، وانتهاكاتها المستمرة للمجال الجوي لبعض الأعضاء، والهجمات السيبرانية والحرب الإلكترونية ونشرها الأكاذيب والافتراءات في الفضاء الإلكتروني ضد القيم الأوروبية، والحرب الهجينة التي تستخدمها ضد الدول البلقانية». وقال إن «الاستراتيجية التي تطبقها روسيا هدفها إضعاف الاتحاد الأوروبي، ونحن ليست لدينا أي أوهام، بل لدينا تقييمات مستمدة من معطيات الواقع». وبرأي الخبير الفرنسي في الشؤون الروسية والاستاذ في جامعة (إينالكو) شارل أورجيفيتز، فإن «موسكو تعد تكاثر النزاعات في أوروبا وتأجيج المشاعر القومية تربة خصبة لبسط نفوذها ودعم التوجهات الانفصالية». وكشفت دراسة أعدها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي بالاشتراك مع مركز دراسات الديموقراطية في صوفيا بعنوان (زعامة الكرملين: محاولة لفهم التأثير والنفوذ الروسي في أوروبا الشرقية والوسطى)، أن «حجم التواجد الاقتصادي الروسي في بلغاريا هائل، إلى حد تمكن مساواته باختطاف دولة». هذه الدراسة، التي تطلّب إعدادها 16 شهراً وشارك فيها أربعة باحثين وخبراء، تتناول السياسة والتأثير الروسي على بلغاريا، إضافة إلى دول أخرى هي هنغاريا ولاتفيا وصربيا وسلوفاكيا، وتوصلت إلى «أن الكرملين يسعى عبر استخدام مفاصل سياسية واقتصادية مختلفة، إلى تشويه النموذج الليبرالي الديموقراطي الغربي، وتقويض العلاقات بين دول ضفتي الأطلسي»، مشيراً إلى «أن التأثير الروسي في بعض هذه الدول نجح في تحقيق اختراقات في العمق بصورة تعيق الأمن القومي، وتهدد التوجهات الأورو- أطلسية لهذه الدول». بصمات الكرملين الاقتصادية أحد مؤشرات التأثير والنفوذ الروسيين وفق استنتاجات الدراسة، تمكن ملاحظته في «البصمات الروسية» في اقتصادات هذه الدول، التي تتضح من حجم الاستثمارات المباشرة وموازين التبادل التجاري والملكية الخاصة، والتي في حال بلوغ نسبتها 12 في المائة من الناتج القومي الإجمالي يصبح من الصعب تقييد التأثير السياسي الخارجي على الدولة المعنية، ففي بلغاريا على سبيل المثال، نجد أن حجم الملكية الروسية في الاقتصاد لم يقل خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة عن 16,9 في المائة من الناتج القومي الإجمالي، وبلغ أكبر مدى له في العام 2012، وهو 27,5 في المائة، وهو الأعلى مقارنة بجميع الدول الأخرى مدار البحث في الدراسة. ولقد ارتفع حجم الاستثمارات الروسية منذ العام 2005 بمعدل أربعة أضعاف في قطاعات الطاقة والمصارف والاتصالات والعقارات ومؤسسات الميديا. وبحسب الخبير في شؤون الطاقة إيليان فاسيليف، فإن «روسيا بسيطرتها على قطاع الطاقة أضحت تمتلك سلاحاً قوياً وفعالاً لممارسة الضغوط على الحكومة عند اتخاذ القرارات السياسية، وهو ما يدعو إلى القلق على مستقبل التوجهات السياسية للبلاد». يتفق العديد من المحللين الأوروبيين على أن انجذاب دول أوروبا الشرقية إلى روسيا لا تحدده أو تمليه فقط الروابط التاريخية العريقة بين الجانبين، بمقدار المخاوف والهواجس من المجهول، مع تزايد التصدعات التي يعيشها النموذج الليبرالي الديموقراطي الغربي بعد الأزمات المالية والاقتصادية وفتح الحدود أمام مئات آلاف اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا وتسببها بانقسامات حادة بين حكومات الدول الأعضاء وبين قيادة الاتحاد ونشوء تيارات وجماعات عنفية في مجتمعات هذه الدول سرعان ما جذبت إليها مؤيدين وأنصاراً من فئات هامشية ومحدودة التعليم، بحيث ارتفع منسوب تأثيرها بالتوازي مع تنامي التهديدات الإرهابية التي تنفذها شبكات داعش والقاعدة والذئاب المنفردة. وترى المحللة في مجلة (إسبري) ومؤلفة كتاب «السياسة الروسية: مفارقة دولة ضعيفة» ماري ماندراس»، أن بوتين يواجه معضلة شائكة وهي رغبته في استعادة قوة روسيا الآفلة مستخدماً الضغوط واستعراض القوة، ومشكلته الكبرى أنه ليس مخططاً استراتيجياً، بل هو سياسي تكتيكي بارع في اقتناص الفرص السانحة». وتضيف: «يأمل الكرملين في أن يساهم الخوف العميق من حرب على أبواب الاتحاد الأوروبي في الحؤول دون صمود الأوروبيين في وجه بوتين». إلا أن كريستيف يستبعد نجاح موسكو في شق الاتحاد الأوروبي، ويقول: «سيكون مصير جميع محاولات بوتين لتقويض أوروبا الفشل، لأن نظام بوتين فاسد وقمعي»، واضاف: «موسكو لا تقدم للأوروبيين البديل الواقعي الأفضل».