استمع خيري منصور قد يصبح اليوم أطول من عام عندما يبلغ الحصار ذروته، وتنسد الآفاق ولا يبقى إلا ما استدعته الإرادة من احتياطيّها التاريخي والثقافي. وحين خاطب محمود درويش المحاصرين من شعبه قائلاً: حاصر حصارك، فذلك ليس على سبيل المجاز الشعري، بل من صميم واقع معاش بأدق التفاصيل، ولأن الحاجة أم الاختراع كما يقال في الأمثال، فإن المحاصر يبتكر ما لم يكن يخطر بباله في الأيام العادية الرتيبة عندما كان كل شيء متاحاً، وفي إحدى القرى الفلسطينية التي عاشت زمناً من الحصار وفرض على أهلها منع التجول، حوّل الناس الدجاج إلى حمام زاجل يحمل رسائلهم بين أسطح المنازل المتجاورة. وحين حرموا رغماً عنهم من رفع الأعلام، نسجوا أعلاماً من الخضار والفواكه وشكلوها ووزعوا ألوانها، بحيث تصبح علماً تشهره الأرض تحت الشمس! ولأن الاحتلال مهما تبدلت مواقعه وأسماؤه يبقى واحداً، من حيث استباحته للحريات والمقدسات، فإن الإنسان يعيد اكتشاف الوطن وذاته أيضاً عندما يحاصر، وهذا بالضبط ما كتبه سارتر في أربعينات القرن الماضي، حين كانت فرنسا ترزح تحت الاحتلال النازي قال: إن مجرد كتابة اسم فرنسا عل جدار قد يكلف الإنسان حياته. وهذا ما يحدث في مدن فلسطين وقراها بعد أكثر من ستة عقود من الاحتلال، فالناس يتداولون ويكتبون أسماء قراهم وسائر الأماكن بالأبجدية الأصيلة رافضين ثالوث التهويد والعبرنة والأسرلة، ويعتقدون أن حفيف الشجر له صدى بالعربي وليس بالعبري كما يتمنى المحتل! هكذا يحاصرون حصارهم، ويكتشفون المهدور من مساحة حريتهم ليزدادوا تشبثاً بالتراب. فهو لم يعد مسقط رأس فقط، إنه الآن مسقط روح وجوهر هوية ورهان وجود! ولولا جدلية التحدي والاستجابة والفعل ورد الفعل لتوقف التاريخ قبل ستة آلاف عام! ومن وجدوا أنفسهم أسرى في عقر وطنهم قرروا أن يحاصروا حصارهم!