النسخة: الورقية - سعودي منذ طفولتي وأنا أسمع عن دول عدم الانحياز، كان الاسم يطربني، وكنتُ أردِّده على الدوام، لكني منذ ذلك الوقت لم أجد دولاً تمارس عدم الانحياز، أو الأهداف التي أنشئت من أجلها هذه الحركة - رسمياً عام 1955 -، إلى أن قدّر الله وتابعتُ السياسة العُمانية، فاكتشفت أن عدم الانحياز هو شعار يُرفع في وقت لا ينبغي ممارسته، ويُمتنع عنه في الوقت الذي ينبغي أن يكون. هل يبدو حديثي لُغزاً؟ بالضبط هكذا هي السياسة العُمانية، فالساسة هناك يودُّون أن يكونوا مثل الكويت، لكنهم يخشون من تعاقُب الحكومات. يودُّون أن يكونوا مثل الإمارات، لكنهم يخشون «الإخوان» والطفرة المفاجئة. يودُّون أن يكونوا مثل البحرين، لكنهم يخشون من مطالب الشعب البرلمانية. ويودُّون أن يكونوا بديموقراطية قطر، لكنهم يخشون من شعراء يهتفون ضد سياساتهم. وأخيراً يودُّون أن يكونوا مثل السعودية، لكنهم يخشون من حمل الملفات وأزمة البطالة والسكن. هذا باختصار عدم الانحياز العُماني، أن تخشى من كل هذه الظروف وتعيشها بالداخل. قد لا يعنينا كثيراً أمر الداخل، حرصاً على السيادة التي تعاظمت على اللسان القطري أخيراً، ولا يعنينا كثيراً أيضاً الانحياز من عدمه في خطوة سحب السفراء التي قامت بها الدول الخليجية الثلاث، لكنْ ألَا ينبغي أن يعنينا بناء جسر بري بين عُمان وإيران؟ فالجسر فائدته لن تقتصر على تعزيز صادرات الحلوى العُمانية في مقابل السجاد والفستق الإيرانيين، بل سيفتح آفاقاً جديدة لدولة مارقة على غرار إيران، لتتصل بشبه الجزيرة العربية. المصلحة بجميع الأحوال لن تكون في مصلحة عُمان ولا دول الخليج التي تمارس عُمان معها مبادئ عدم الانحياز في ما يهمها، ولن يكون ذا جدوى لقيادة وساطة بين إيران واليمن، لإطلاق سجناء من حزب الله تحتجزهم صنعاء بعد ضبطهم بأدوات تخريبهم، ولن يكون مفيداً فتح مجالسها لإصلاح ذات البين بين دول الخليج وإيران، وأخيراً حتى وإن وقّعت اتفاقات نووية، فهذه لن تكون لمصلحة عُمان في شيء، بل على النقيض ستكون ساحة أخرى للمراوغة الإيرانية. عُمان ليس مطلوب منها إلا عدم الانحياز سراً وجهراً، لكن التلاعب من تحت الطاولة لم يعد مجدياً، فالطاولات الحديثة زجاجية وبالإمكان رؤية ما يحدث تحتها، ومن ثم على عُمان ألاَّ تقع ضحية عدم انحيازها فتجد نفسها مثل شقيقتها قطر التي لوهلة كانت على استعداد للإصلاح بين الزوج وزوجته أينما كانا، أو هكذا أرادوا أن يقتحموا العقلية العربية بسياسة ناعمة، إلى أن وجدوا أنفسهم محاصرين بملفات لا طاقة لهم بها. الوضع العربي اليوم يتطلب الانحياز، والوضع الخليجي أيضاً يتطلب التشدد في الانحياز، لمواجهة كل ما يعزز ويحفظ أمن هذه الدول، وبالأمس جسّدت الإمارات ذلك باستدعائها السفير العراقي على خلفية تصريحات رئيس وزرائه نوري المالكي. مهلاً، هل قلتُ المالكي؟ إذاً دعوني أخبركم بسيد الطائفية المقيتة، فهذا الرجل الذي شكّل ميليشيات طائفية للقتل على الهُوية، امتنعت المملكة عن مصافحة يده الملطخة بالدماء، وهو ما دفعه إلى حال من الهلوسة لكيل الاتهامات في كل مناسبة تسنح له، كان آخرها الاتهامات التي حاول أن يعلق عليها أخطاءه وفشله في إدارة البلاد التي وصلت إلى أسوأ مرحلة لم يبلغها العراق خلال حربين متتاليتين في عهد رئيسه السابق. إخفاقات المالكي التي نتحدث عنها لا تقتصر على الشأن السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، أو حتى الاجتماعي بل تشملها جميعاً وتزيد عليها بأنها تقود البلاد إلى التشرذم، وهذه الصورة يمكن استشرافها من مجريات الأحداث هناك والأحداث في الدول المحيطة، فالاحتقان السياسي والمذهبي بلغ أشده في العراق، سواء من السنة أم الأكراد أم الشيعة في صرختهم الأخيرة، ما ينذر بتقسيم الكيان العراقي وسيسرِّع به ما يحدث على الأراضي السورية المجاورة. هذا ما لا يستطيع الرجل الذي يسكن في البيت الزجاجي ويخشى الخروج منه أن يقوله أو يتصدى له، وبطبيعة الحال المتضرر الأكبر من التقسيم بخلاف العراق هو إيران، الصديق الجديد والمرتبط برّاً بالخليج عبر عُمان.. فليحيا «عدم الانحياز». * كاتب وصحافي سعودي.