جُبِل الإنسان على الأنس بمن حوله ولذا ترى كل شخص يقضي وقت فراغه بالاجتماع بمن حوله ليأنس بهم ويبتعد عن الوحشة وخصوصاً في الغربة والسفر، وقديماً فقد كان في القرى والبلدات عدة أماكن تجمع أهل الحي الواحد وإن اختلفت مسمياتها في شتى المناطق وهي بمثابة المنتديات، ففي منطقة نجد مثلاً هناك مكان يجتمع فيه كبار السن في فصل الشتاء يسمى بـ (المشراق) وهو مجلس شتوي تحت جدران بيوت الطين يستقبل أشعة الشمس في أول ساعات النهار حيث يتوافد إليه كبار السن خصوصاً لطلب الدفء الذي تجلبه أشعة الشمس ويقضون فيه الساعات في تجاذب أطراف الحديث، وفي منطقة الحجاز يجتمع الناس في مكان يطلقون عليه اسم (المركاز) ومن أشهرها (مركاز) العمدة أي عمدة الحي الذي يستقبل فيه المواطنين لقضاء حوائجهم ويصغي إلى ما يجري من حوار بين الحاضرين حيث يدلي بدلوه في حل بعض مشكلات الحي العارضة، ومن أمكنة الجلوس في غالب البلدان والقرى (مجلس) القرية الذي تتناثر فيه المحلات التجارية على بساطتها قديماً، فقد كان من يريد شراء أو بيع سلعة يتوجه إلى (المجلس) لهذا الغرض كما يتوجه إليه من يجد وقت فراغ فيجلس إلى أحد أصحاب الدكاكين ويمضي الوقت معه في الحديث ويطلع على أحوال السوق وقد يعود إلى بيته بعد أن يشتري بعضاً مما يجلب في السوق من حطب أو ماشية أو منتوجات زراعية أو غيرها من السلع التي يجلبها أصحابها، كما تسمى الجلسات في بعض المناطق بـ (القهاوي) وهي مجالس بعض الميسورين من أصحاب الجاه حيث يكون لهم مجلس يستقبلون فيه أهل الحي فيستضيفونهم ويقدمون لهم القهوة، وهناك من الناس من اتصف بالكرم فتراه جعل من مجلس بيته مكاناً للالتقاء بالأصدقاء أو أهل الحي الواحد فتجد باب مجلسه مفتوحاً على الدوام، ففي كل بلدة عدد من المجالس التي تشتهر باستقبال الناس في كل وقت وتسمى (قهاوي) فترى البعض عندما يلتقي بصاحبه يقول مشينا إلى قهوة فلان لنلتقي بالأصدقاء هناك، وبعد تطور الحال وظهور السيارات ظهرت (القهاوي) وهي مكان استراحة المسافرين في أطراف البلدان حيث بات العديد من الناس يقصدها للجلوس فيها للالتقاء بأصدقائه ويتناولون فيها المشروبات الغازية والشاي والقهوة، كما يتعرفون على أحوال المجتمع المحيط بهم ويحصلون على آخر المستجدات من السائقين حين استراحتهم من عناء السفر الذي كان منهكاً عبر الطرق الترابية قبل ظهور الاسفلت كوقوع حادث أو هطول أمطار أو غيرها من الأخبار، وكانت هذه الجلسات تعج بالكثير من روادها على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية حيث يجمعهم طلب الأنس وتمضية الوقت في تجاذب أطراف الحديث عن همومهم الحياتية اليومية وما يشغل بال الناس من أحداث اجتماعية أو سياسية، حيث يغلب على كل جلسة حديثاً خاصاً فجلسة التجار تتناول ما يستجد في عالم التجارة كأخبار السلع ومورديها وقيمة كل سلعة حديثة، وكذلك الحال لجلسة من يغلب عليهم العمل في الزراعة أو في أي حرفة فتراهم يبثون بعض همومهم اليومية ويعطون تجاربهم لمن يسأل في هذا المجال، وفي وقتنا الحاضر تبدلت الأحوال بعد أن توسعت المدن وتطورت وظهرت البيوت الجديدة من الفلل السكنية المتباعدة ومحت معها العديد من أماكن الجلوس الجميلة كـ(المشراق) و(القهاوي) و(المركاز) وتبدلت هذه الجلسات بمقاهي الانترنت وبهو الفندق إضافة إلى الاستراحات التي تقتصر على عدد معين من الشباب والكبار حيث تتصف بـ (الشللية) أي أن كل مجموعة من الناس باتت تمثل (شلة) تجتمع في مكان معين بمسمى (استراحة) للقاءات اليومية. المشراق تعد جلسة المشراق تحت جدران الطين قديماً من الجلسات المحببة لدى كبار السن خصوصاً إذ يجدون فيه الدفء في فصل الشتاء ويلتقون فيه بأقرانهم ويتبادلون الحديث فيما بينهم، وقد يمضون الساعات الطوال في ذلك بلا حراك، أما الشباب والرجال فقل أن تجد منهم من يجلس في المشراق وذلك لذهابهم إلى العمل منذ الصباح الباكر فلا وقت لديهم ليضيعوه في الجلوس بلا عمل، ومن أجل ذلك فقد حذر الشاعر المشهور راشد الخلاوي ابنه من جلسة المشراق التي تلهي عن العمل وتدعو إلى الكسل فقال: أوصيك يا ولدي وصاة تضمها إلى عاد مالي من مدى العمر زايد وصية عود ثالثت رجله العصا وقَصْرَتْ خطاه اللي منوّل بَعَايد فمن عود العين الرقاد تعودت ومن عود العين المساري تعاود ومن تابع المشراق والكنّ والذرى يموت ما حاشت يديه الفوايد المجلس من الأماكن التي يجتمع الناس فيها قديماً وتحتضن جلساتهم (المجلس) وهو سوق كل بلدة والذي يعد القلب النابض لها بما يضمه من محلات تجارية متناثرة على جانبيه وهو في الغالب يتوسط البلدة ويعد مكان البيع والشراء فيلتقي فيه الناس ويجلس الناس في جنباته فمجموعات متحلقين أمام أحد محلاته التجارية التي تزاول البيع والشراء منذ شروق الشمس فيتبادلون الحديث ويتعرفون على الأخبار وأحوال السوق، كما يجدون في جلوسهم متعة لرؤية الداخل والخارج من القرية أو الزائرين كما يجدون فرصة التسوق مما يجلب إلى السوق من سلع والتي كان جلها من الحطب والماشية والسمن والاقط وبعض المنتوجات الزراعية كالتمر والخضار وغيرها من السلع البسيطة، وقد تشهد جلسات السوق بعض المكاتبات لتوثيق البيوع مما يغني عن جلب الشهود لتواجد كثيراً من المعارف من رواد السوق، كما لا تخلو جلساته من العيارة (وهي المزاح) حيث يتم في هذه المجالس تداول العديد من المواقف الطريفة وعمل بعض المقالب لبعض رواده طلباً لتسلية والترفيه في حدود الأدب والتسامح، كما يساهم من يجلس في السوق في مساعدة من يعمل فيه كصانع (الحبال) من ليف النخل وهي عملية شاقة اذ يتطلب ذلك (فتل) الليف وذلك بلفه باليدين مما يجعل اليد تتأثر من ذلك فتشوبها الخشونة، ومن أجل ذلك ضرب المثل برواد السوق الذين يتفرقون عند رؤية صاحب صنع الحبال الذي يقبل ومعه (زبيل) مملؤ بـ (الليف) الذي يؤخذ من جذوع النخل، فما أن يقبل إلا وينهض عدد منهم مغادراً السوق لئلا يعمل مع صاحب الليف، وقد ضرب في ذلك مثل يقول (تجمعهم السواليف.. ويفرقهم الليف)، ومن المجالس التي يجتمع الناس فيها جلسة القاضي في مكان قريب من بيته حيث يجتمع إليه في المساء الناس ممن يطلب الفتيا أو يأتي بخصم له ليقاضيه أمام القاضي الذي كان عمله مستمراً طوال اليوم، ولكن يغلب على جلسة القاضي الجدية فتجد من يجلس فيها يستفيد علماً ودراية بالأحكام. المركاز تعددت مسميات أماكن الجلوس أو الجلسات التي يقضيها الناس في تبادل الأحاديث أو الحوارات أو أوقات السمر واختصت كل منطقة من مناطق بلادنا بمسمى خاص ففي منطقة الحجاز والمنطقة الغربية يطلق على هذه الأماكن (المركاز) ففي كل حارة (مركاز) أو أكثر ومن أشهرها (مركاز) العمدة الذي يتوسط الحارات الشعبية العتيقة في المدن بالمنطقة الغربية، ويعد أحد المعالم التراثية القديمة التي لا تزال تكافح من أجل البقاء في زمن تسارعت فيه خطى التقنية واختلفت فيه سبل الترفيه والتواصل، فمن أهم الوظائف التي كان يقوم بها (المركاز) في عهده الزاهر قديماً مناقشة كل ما يتعلق بأمور الحي واحتياجاته، بالتشاور بين وجهاء وأعيان ومشايخ الحي، وهو مستودع أسرار العائلات وأحوالهم، ويباشر رصد الحالات الفقيرة والأرامل وتسجيل المحتاجين من أهل الحي لدى الجهات والجمعيات كما كان يقوم كذلك بالفصل في الخصومات بين السكان وحكمه نافذ على أبناء حارته، ولا زالت عدد من حارات جدة القديمة تحتفظ بعدد من هذه (المراكيز) كإحياء للتراث وهي تلقى الدعم والتشجيع من الهيئة العامة للسياحة والآثار حيث باتت مصدر جذب سياحي للمنطقة. سوالف زمان اتصفت العديد من الجلسات بتحليل الأوضاع التي تمر بها البلاد داخلياً وخارجياً فترى أحدهم ينبري بتحليل الوضع العام القائم ويكون مرجعه الدائم جهاز الراديو، حيث يمضي من يملك راديو الليل في الاستماع اليه، وبعد أن يستمع إلى نشرات الأخبار من إذاعة (مونت كارلو) أو (هنا لندن) أو (صوت أمريكا) والتحليلات السياسية وخاصة فيما يتعلق بالحروب أو العلاقات الدولية، وإذا جاء الصباح أو المساء واجتمع مع أصدقائه في مجلس القرية قام بسرد آخر المستجدات عليهم وشرح لهم ما يدور في العالم من أخبار، وفي إحدى القرى كان من بين الجالسين من لا يرغب في سماع ذلك ولا يهتم به وهم كثر إذ لا يعنيهم ذلك في شيء وصار يضيق ذرعاً بما يسمعه، وفي إحدى المرات وبينما هم جلوس إذ أقبل هذا الرجل الذي يستمع إلى الراديو ويسرد أخباره على الجالسين ولما رآه ذلك الرجل الذي لا يرغب في الاستماع إلى ذلك قال للحضور جاءكم (كوريا موريا) وذلك لكثرة ما يردد عليهم أخبار هذه الجزر التابعة لسلطنة عمان، وبالجملة فقد ساهمت العديد من هذه الجلسات في حل المشاكل الحياتية التي تعترض حياة البعض من الناس وكانت مصدر لقاء وتواصل ومحبة مع الغير، وان كان هناك بعض المجالس التي يتكلم بعض روادها بالغيبة أو النميمة أو بما لا يليق من الكلام وهي نادرة وسرعان ما ترى الكثير من العقلاء يتجنبون الجلوس فيها، وقد وصفها أحد الشعراء المعاصرين وهو الشاعر غزاي نومان الحربي الذي قال: لا ضاق صدرك عالي الصوت جره لو كان قلبك ما يطاوعك بسرور دنياك لو تسوى مِن الحُزن ذرّه ما كان تـاليــــها توابيــت وقبــــور وما كان للكافــر بعـــمره مسرّه وما شفت في ملكه ملايين وقصور العــــمر يمضِي بين حُلوه ومُرّه والموت حَقّ وقابض الرّوح مأمور دام الحـــــياة الفـــانيه مستــقِرّه ورزقك يجـيك وبين الاجواد مستور لا تنشغل بالـوقت بـرْده وحَـــرّه واحـذر تصير بقسمة الناس مقهور وحُكم القدر لا جاك خيره وشرّه أشكر عظــيم الشّأن والذّنْب مغفور والمجـلس اللّي يزعجك لا تمرّه خَـلّه تـــراك بشوفـته منت مجــبور سـاعات صمت ما وراها مضرّه تسوى الكلام اللّي به إذنوب وشرور أطلق خيالك واترك النّفس حُـرّه وخـلّ الطّبـيعه في حيــاتك لها دَور وباللّـيل لا بانت نجــوم المجــرّه أذكُر بديع الخلق باحساس وشعور واسجـد لـربّ الكُـون مرّه ومرّه واحفظ لسانك واترك الكِذب والزّور وفــروض ربّــك خَلّــها مستمِرّه وطاعتك لا يدخل بها نقص وقصور استراحات ومقاهي مع تقدم الزمن وفي وقتنا الحاضر اندثرت أماكن الجلوس التي تجمع أهل البلدة أو الحي في مكان واحد كـ (المجلس) أو (المشراق) أو (المركاز) وغيرها واستبدلت بأماكن خاصة تجمع فقط عدد معين من الأصدقاء وهي (الاستراحة) والتي لم تعد تخصص بوقت معين للجلوس بل في أي وقت فراغ لأفرادها، كما بدأ الكثير من الناس وخصوصاً في المدن الكبرى ومع مشاغل الحياة ووتيرتها المتسارعة ينشغلون عن اللقاءات الجماعية وبات البعض يلتقي بمن يرغب في أحد المقاهي التي انتشرت بكثرة وباتت تقدم أنواع المشروبات والأطعمة الخفيفة في جو هادئ وجميل، كما تستهوي جلسات البهو في الفنادق الفاخرة بعض الناس ليتواصلوا مع من يرغبون من أصدقائهم بعيداً عن جلسات البيوت في جو هادئ ومريح، ولكن كبار السن وخصوصاً من تخطى سن التقاعد لا تستهويه هذه الجلسات الحديثة ومن أجل ذلك قامت العديد من لجان التنمية في المدن والمحافظات بإنشاء (ديوانيات) لجلوس كبار السن مهيأة بالفرش الفاخر مع تقديم المشروبات الباردة والساخنة، كما عملت بعض المكتبات العامة التابعة لوزارة الإعلام ديوانيات للمتقاعدين يجتمعون فيها وتوفر لهم جميع الصحف والمجلات، وزاد الاهتمام باحتضان أماكن جلوس للجميع كما هو المعمول في أندية الحي التابعة لوزارة التعليم، وذلك سعياً من هذه الجهات لتوفير جلسات تجمعهم ليقضوا فيها وقت فراغهم. مقاهي زمان في الرياض شهدت أحلى اللقاءات بين الأصدقاء قبل الطفرة أحد أسواق الرياض القديمة وتظهر جلسات زمان متناثرة بين الدكاكين إحدى ديوانيات لجان التنمية حيث تجمع الأهالي ببعضهم إحدى جلسات المقاهي الحديثة بتصميم شعبي لجذب الزبائن جلسة المشراق منتدى مفتوح لكبار السن قديماً جيل اليوم يفضل جلسات المقاهي الحديثة للقاء أصحابه جلسات زمان الجميلة فرصة لتواصل كبار السن ببعضهم إعداد: حمود الضويحي