بأيّ ذنب قُتلت؟! ترددت كثيرا قبل أن أكتب؛ خشية أن أكون ممن يتلقّون بألسنتهم، ويقولون بأفواههم ماليس لهم به علم، ويحسبون ذلك هينًا وهو عند الله عظيم! استخرت الله أخيرًا، ثم عزمت على الكتابة، وأستغفره من قبل ومن بعد. هل الإلقاء يقلب رأي المستمع في القصيدة؟ هكذا كان السؤال المصاحب للرابط المنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يحوي قصيدة الشاعر المبدع حيدر العبد الله ملقاة بصوت المذيع المتألق دومًا خالد مدخلي.. لن أقف، هنا، عند الإجابة السطحية عن ذلك السؤال الطفولي، والتي هي، وبلا أيّ تردد: نعم! لكنني سأتجاوزها إلى سؤال آخر، استحضره السؤال السابق؛ سؤال طمرته رياح التغيير العاتية التي هبّت على صحراء مجتمعنا العربي الكبير، الممتد من الماء إلى الماء! ويا لسوء الحظ، أو يا لحسنه! أنها لم تستطع، رغم شدة صواعقها، وقوة زوابعها أن تجتثّ ذلك السؤال، الذي أُثير قبل عقود من الزمن: هل العرب ظاهرة صوتية؟! نعم، يطفو السؤال مجددا، من بين أوحال الوهم، التي ضلّلت فئامًا كثيرًا من المجتمع، وأوهمته بأنه يسير في الاتجاه الصحيح، فكريًا على الأقل! هنا لا ضير ولا ضرر أن نعترف بأننا نعيش، غالبًا، حالة من اللاوعي تسيّرنا نحو كثير من الاتجاهات التي تتعارض مع ما يجب أن نقوله، أو أن نفعله، أو أن نكون عليه، أو أن نسير معه، دينيًا، واجتماعيًا، وفكريا.. حالة اللاوعي هذه، بالمفهوم الفرويدي، أنتجتها عدة عوامل تتكامل حينًا وربما تتقاطع أحيانًا، ومن أهم هذه العوامل وأقواها تأثيرًا، العادات والتقاليد الاجتماعية، والتي تُعدّ هي النتاج الأول لسُلطة المجتمع! المجتمع أولًا، ولا شيء يعلو فوق صوته! هكذا تخبرنا جميع الأزمات الفكرية والاجتماعية التي يطالعنا بها الزمن بين حينٍ وآخر، المجتمع الذي يولد الطفل في أحضانه رجلاً، لا تسمح له سُلطة مجتمعه أن يتلذذ ببراءات طفولته؛ لا يحق له أن يخطئ كما فطره الله، ولا يليق به أن يعبث كما فطره الله، ولا يجدر بمثله أن يصيح كما فطره الله، حتى البكاء، يحرم عليه أن يبكي! لكل ذلك ومن أجله ولد طفلًا محرومًا من طفولته، مندحرًا في أعراف مجتمعه وتقاليده! كبُر الكائن الطفل، وكبُرت معه طفولته! وأصبح الصوت هو سلاحه الأول، وربما الوحيد، في مواجهة الآخرين؛ لكونه كان السلاح الأوحد لتربيته! لا يطلب حقّه إلا بالصراخ، ولا يختلف مع أقرانه إلا به، ولا يحكم على الآخرين إلا من خلاله! الطفل ذاته الذي ظل يقتات على الصراخ، بات يواجه القصيدة بأذنيه فقط، اللتين استمرأتا ذلك الصراخ، فلم يعد يشنّفهما إلا هو، ولم يعد ينضبط إيقاعهما إلا عليه، وكم من أذنين هما تينك الأذنين! ما ذنب القصيدة إن تمزقت فوق أذنيه قبل أن يستوعبها عقله وقلبه! وأين موقع التهكّم والسخرية منها إن كان لا يملك في جعبته الأخلاقية سواهما! بل أين موقعه هو من الأخلاق الإسلامية السمحة؟ ألم يعلم بأن الله يرى؟ ويسمع؟ ويعلم؟! القصيدة القتيلة عرّت الكثير من النُّخب، ونبهتهم قبل العامة بأنهم لا يزالون بعيدين عن مستوى النصج، وأشعرتهم بأنهم في أمس الحاجة إلى حراك راقٍ يتجنّب الصراخ، والشتم، والقذف، ويُعمل النقل والعقل والذوق! لا أدري، هنا، هل ينتظر مني أحدٌ أن أؤكد على أني لست ضد مجتمعي، فما أنا إلا ابنه البار الذي يكره أن يكون مجتمعه محضن، أو منطلق تلك العادات الهادمة للدين أولا، ثم للقيم، ثم للمجتمع وترابطه. ختامًا، إلى كل من شارك سخريةً، أو تهكمًا، أو نفيًا، أو قتلًا لجمالية القصيدة، استغفر لذنبك، وأَبرئ نفسك، وأعد قراءة القصيدة ثم اسأل عقلك: بأيّ ذنب قُتلت؟! أحمد هادي يحيى أخبــــار مـشـابـهـة No related posts.