سؤال الثقة في استطلاعات الرأي.. احترام للرقم وتحفظ على النسبية أدرك الإنسان منذ القدم أهمية الرأي العام وتأثيراته على مختلف القضايا، وأكثر مما استخدم في العلاقة بين الحاكم والمحكومين، إذ لجأ هؤلاء إلى أساليب عدة من أجل كسب الرأي العام على غرار السحر والشعوذة، ومع تطور الاتصالات والثورة التكنولوجية وزيادة أهمية البحوث العلمية، فرضت دراسات الرأي العام واستطلاع اتجاهاته نفسها بقوة، وأصبحت ميزة بارزة تعتمد عليها الكثير من الفعاليات في مختلف الميادين. العربحكيم مرزوقي [نُشرفي2016/12/06، العدد: 10477، ص(12)] أغلب الناس يصرحون بعكس ما يبطنون وينتخبون ظهرت مؤسسات سبر الآراء في المجتمعات الغربية ومرت بعدة مراحل وتطورات، توصل خلالها المختصون في هذا الميدان إلى مناهج وأدوات وأساليب خاصة به، وتمثل دراسات قياس الرأي العام نقطة التقاء عدة علوم كعلم النفس والاجتماع والسياسة والتاريخ والإحصاء والرياضيات. وعليه فإن استطلاع الرأي هو دراسة علمية يتم إجراؤها بشكل منهجي ودقيق، وتهدف إلى معرفة آراء المواطنين إزاء إحدى القضايا الهامة، أو أحد الأحداث المطروحة على الساحتين الاجتماعية والسياسية، وتفيد نتائجها كل المهتمين من إعلاميين وباحثين ومسؤولين، وتساعدهم في عملية اتخاذ القرارات وصياغة البرامج وتحديد الأهداف، كما أنها توفر كما ضخما من المعلومات في مختلف المجالات. وتعود أولى المحاولات لقياس الرأي العام إلى عام 1774 بالولايات المتحدة الأميركية من قبل مؤسستي أراز للاستطلاعات، وبن فرانكلين لقياس الرأي العام في المستعمرات الأميركية الثلاث عشرة، التي شكلت في ما بعد فيدرالية الولايات المتحدة الأميركية. وتعد الاستطلاعات من أهم العناصر خلال هذه الفترة التي تصبح أي معلومة فيها ذات قيمة خاصة ما يتعلق بتوجهات الناخبين وأولوياتهم ونسبة المشاركة المتوقعة. وعلى الرغم من أهمية تلك الاستطلاعات وقدرتها على توقع الفائزين فإن هناك محاذير كبيرة يجب الانتباه إليها. أهمية استطلاعات الرأي لا تقتصر على توقع الفائزين بل من المفترض أن يتم التركيز على القضايا المهمة والخصال الشخصية التي تؤثر في قرار الانتخاب وتطلعات الناخبين، فطريقة طرح السؤال وموعده فضلا عن العينة المستخدمة هي أمور تؤثر كثيرا في النتائج. البعض من شركات سبر الآراء في تونس أثبتت وقوفها عند نتائج قريبة جدا من نتائج صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكان هامش الخطإ لا يتجاوز 1.5 في المئة قد يتفق الكثير على أن قرار التصويت يتم اتخاذه بناء على مبادئ أساسية كالتيار السياسي وصلة القرابة والأداء والسيرة الذاتية ولا يتأثر القرار بالطريقة التي تم السؤال بها، إلا أن هناك نسبة لا يستهان بها من الشعب لا تقرر إلا عند اقتراب موعد الانتخاب ولا تكترث كثيرا بالأجواء السياسية، فالموضوع بالنسبة إليها مبني على قواعد أخرى كالحملة الانتخابية وتوصية الأقارب فيكون التغيير عند تلك الفئة أمرا سهلا. ليس من الصعب على أي شخص متخصص باستطلاعات الرأي أو بالإحصاء، أن يكشف الأخطاء الإحصائية في أي استطلاع رأي، وكشف أسباب تباين النتائج بين الاستطلاعات والنتائج الواقعية، فهناك الكثير من الأسباب الإجرائية والأخطاء المتعلقة بالأوزان ونسبة الثقة، أن تسليط الضوء سيكون على الأسباب الاجتماعية والبحثية البسيطة، التي تؤدي إلى خلل في توقع النتائج وبناء الاستنتاجات. نتائج استطلاعات الرأي -ومهما كانت غرابتها- لا يمكن فصلها عن بيئتها الثقافية والاجتماعية، وقد تعبر عنها بعض القصص الساخرة التي لا تخلو من ألم وكوميديا سوداء، مثل الذي يعيش في مناطق المجاعة ويجيب عن سؤال “ما رأيك في أكل اللحم؟” بتساؤله “ما معنى لحم؟”، ثم يأتي التدرج نحو مناطق أخرى في العالم الثالث، فيجيب واحد عن السؤال نفسه بقوله “ما معنى أكل؟”، إلى أن نصل إلى مواطن يسأل في دولة تحكمها دكتاتورية عسكرية بقوله “عفوا، ما معنى رأي؟”. وعلى مستوى العالم العربي، يوجد في تونس الآن على سبيل المثال ما بين 20 و25 مكتبا لسبر الآراء، لعبت قبل 14 يناير 2011 دور الوسيط بين شركات تجارية وإعلانية والمواطن، لكنها بعد الثورة لعبت دورا سياسيا اتصاليا مهما في ظل مناخ الحرية والديمقراطية. وتعمل هذه المؤسسات على تقديم معطيات متمثلة في أرقام تفسر مدى قبول أو رفض الشارع التونسي لموضوع معين سواء كان سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو استهلاكيا. ولكن هذه الشركات مازالت لم تحظ بعد بالثقة التامة من قبل الشعب؛ فقد شككت العديد من الأطراف في مصداقية بعض هذه المكاتب، واعتبرت أنها تعمل لصالح جهات معينة، وتحاول توظيف الأرقام لصناعة الرأي العام وتوجيهه، كما أن أغلب مؤسسات سبر الآراء تعمل دون إطار قانوني. لا وجود لرأي يوصف بـ "العام" نتائج الانتخابات الأميركية تقيم الحجة على وهم استطلاعات الرأي "الرأي العام هو أكبر كذبة في تاريخ العالم“، هذا ما قاله الكاتب والمؤرخ الأسكتلندي الساخر، توماس كارليل، فلا شيء يمكن له أن يجمع بين “الرأي” الذي يفترض أنه حالة فردية بامتياز، تخضع لخصوصية ذهنية ووجدانية لا تهم إلاّ صاحبها، وبين كلمة “العام” التي تعني الانتشار والتشابه والتداول من طرف عامة الناس. عمليات سبر الآراء، في رأي الكثير من غير المؤمنين بها، استخفاف بالعقل البشري، وفخ لاستدراج البسطاء نحو “الرأي الأرجح” في حسابات تحكمها المصالح المالية والسياسية، وهي في نظر هؤلاء عمليات احتيال واستقطاب ولي حقائق عبر حالة من الإيحاء تغذي في البسطاء غريزة القطيع واتّباع ثقافة المسايرة. إذا سلّمنا بأن استطلاعات الرأي قد تميزت بالحياد والموضوعية، والتزمت بتشريك كل الفئات الاجتماعية، فإنها -ومع ذلك كله- تبقى مهددة بما يعرف ب«تأثير برادلي»، ويعود أصل هذا المصطلح إلى انتخابات 1982 في ولاية كاليفورنيا الأميركية، حيث تنافس توم برادلي المرشح الديمقراطي الأسود مع مرشح الحزب الجمهوري جورج دوكميجان، وكان هناك تخوف من إظهار عدم المساندة والدعم لمرشح أسود، فكانت نسبة تأييده في الاستطلاعات أكبر من التأييد الفعلي خوفا من الاعتقاد في عنصريتهم تجاه السود. ولعل أبرز ما يعيق استطلاعات الرأي ويشكك في مصداقيتها، هو “التحيز في الاختيار”، إذ يقوم الباحث بانتقاء عينات لا تمثل الشعب أو الشريحة المستهدفة، ويتم تعميم النتائج، وهنا تكمن غالبية الأخطاء والتوقع الخاطئ. ومن أهم الأمثلة الدالة على ذلك ما حصل في الانتخابات الأميركية عام 1936، عندما قامت مجلة ليترلي دايجست بأضخم عملية استطلاع رأي، حيث جاءت النتائج لصالح المرشح لاندون بنسبة 57 بالمئة على حساب روسفلت، الذي حصل على 43 بالمئة، وبالمقابل جاءت نتائج الانتخابات مغايرة، وفاز روسفلت بنسبة تفوق الـ60 بالمئة في الانتخابات، مما وضع مصداقية المجلة على المحك، ولكن وبعد تفحص العينات تبين أن المجلة قامت باختيار فئات وشرائح غير عشوائية متمثلة في المشتركين وقراء المجلة، وفي هذه الحالة ومهما بلغ عدد المستطلعين، لا يمكن تعميم النتائج على الجميع، بسبب عدم تمثيل العينة لجميع المواطنين. هناك مثال من الانتخابات البريطانية أيضا، حيث أثبتت الاستطلاعات انقسام مقاعد الحكومة بين حزب المحافظين وحزب العمال في معركة انتخابية حاسمة، إلا أن النتائج جاءت عكسية وفاز حزب المحافظين بالأغلبية، أما الضربة الساحقة الماحقة لمصداقية استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، فهي نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة. ويعتبر فوز ترامب أحدث خيبة تضرب صناعة بحوث الرأي العام التي تقدر قيمتها بنحو عشرين مليار دولار، وذلك بعد شهور فقط على فشلها في التنبؤ بنتيجة تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء يونيو الماضي. أما في العالم العربي فقد ساند الكثير من المتخصصين منذ فترة قرار السلطات المغربية منع نشر وسائل الإعلام لنتائج استطلاعات الرأي السياسية لمدة شهر قبل موعد الانتخابات البرلمانية، وذلك حفاظا على مصداقيتها ونزاهتها، كما قالت الجهات المعنية. وهددت وزارة الداخلية المخالفين بالملاحقة القانونية التي قد تصل إلى السجن مدة سنة. المشهد الكويتي يعاني من المشكلة ذاتها في نظر إعلاميين كويتيين، حيث تقوم غالبية شركات الاستطلاعات والصحف باستطلاعات للرأي بعينات متحيزة، فتبني توقعات الفائزين على عينات لا تمثل جميع المواطنين. وفي هذا الشأن يقول أستاذ القانون الدستوري، التونسي قيس سعيّد، إنه لا يوجد أي نص قانوني ينظم عمل شركات سبر الآراء بل يوجد فقط فصل «يتيم» بالقانون الانتخابي يتعرض لعدم نشر سبر الآراء قبل موعد الانتخابات، ولكن ذلك غير كاف على الإطلاق بل يجب تنظيمها في نص قانوني مستقل يضمن شفافيتها، فضلا عن رقابة من قبل هيئة مستقلة على غرار ما هو موجود في العديد من الدول المتقدمة، ويضيف سعيّد أنّ “النتائج المتعارضة لشركات سبر الآراء ببلادنا كثيرة وهذه العمليات يمكن أن يكون لها الأثر البالغ في توجيه الرأي العام حتى قبل موعد الانتخابات بكثير”. أخطاء موضوعية وذاتية وتقنية كثيرة تقف خلف ضعف وزيف عمليات استطلاع الرأي، مثل عيوب استمارة الاستطلاع أو ما يعرف بـ“الاستبانة”، إذ أنه يصعب استخدامها في حالة كان المستجوبون لا يجيدون القراءة والكتابة في المناطق النائية من بعض البلدان العربية -وما أكثرها-، مما يؤدي إلى احتمال قيام آخرين من غير المعني بالإجابة عن الأسئلة، وهو ما يزيد في تضليل النتائج. الحقائق سليلة المؤشرات والأرقام استطلاعات الرأي تقلل من المفاجآت والصدمات لا حديث عن دخان دون نار، وليس من المنطق وجود مؤشرات دون وجهة، وفق العلوم الصحيحة التي تستند إليها الأبحاث الاجتماعية التي تعتمد بدورها عمليات سبر الآراء بالدرجة الأولى، لكن الآراء المشككة في نتائج استطلاعات الرأي في العالم العربي، اعتمدت على وقائع استثنائية وشاذة، لها ما يبررها في مجتمعات غربية، ثم جاءت وجعلتها قاعدة و”دليلا كافيا” على بطلان عمل مؤسسات سبر الآراء. المشكلة أن المال والسياسة يفسدان كل شيء في كل زمان ومكان، وحتى في البلدان ذات المؤسسات الديمقراطية العريقة، فما بالك بالعالم العربي ذي الوضع الهش والتجارب الناشئة، لكن المنطق يقول إنه لا يمكن التخلي عن تجارب أثبتت نجاعتها بسبب حالات شاذة واستثنائية من هنا أو هناك. الأكاديمي والباحث مختار التوهامي يعرّف الرأي العام بأنه الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعية في فترة معينة بالنسبة إلى قضية معينة أو أكثر، يحتدم حولها الجدل والنقاش، وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمها الإنسانية الأساسية مسا مباشرا. وتوفر نتائج استطلاعات الرأي في خطة البحث وعمق الأفكار المطروحة فيها الوصول إلى مؤشرات صحيحة ظاهريا للخيارات المثلى، كما يشكل الاستطلاع ميزة إضافية أخرى، وهي التدفق الثنائي للمعلومة بين صانع القرار وأفراد المجتمع. أصبحت مراكز الاستطلاع وقياس الرأي العام في الدول المتقدمة من الأذرع الهامة جدا لصانعي القرار في مختلف المجالات، ويعتقد البعض أن سر نجاح النظم الغربية يكمن -إلى جانب قيم الديمقراطية والحرية- في تفعيل دور المؤسسات التي تعبر عن كل هذه القيم مثل مراكز الاستطلاع وقياس الرأي ووسائل الإعلام المختلفة. وفي العالم العربي، فإن تجربة استطلاع الرأي في بلد مثل تونس لا تتجاوز 10 سنوات، ورغم ذلك فإن خبراء ومتخصصين، يقولون بأنها حققت نجاحا بلغته بلدان متقدمة بعد أكثر من 70 سنة من هذه التقنية، وأثبتت بعض شركات سبر الآراء وقوفها عند نتائج قريبة جدا من نتائج صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكان هامش الخطإ لا يتجاوز 1.5 في المئة. وفي السعودية فإن مركزا مثل “خديجة بنت خويلد” مثلا، قد دأب منذ سنوات على إعداد الدراسات والبحوث التي تخدم تمكين المرأة السعودية وتعزيز دورها في التنمية الوطنية، وهذه الدراسات تعتبر أحد الروافد المهمة التي تساهم في إيضاح الصورة الواقعية لقضايا مشاركة المرأة في القوى العاملة لتساعد صناع القرار على اتخاذ الإجراءات المناسبة للتوسع في الاستفادة من الطاقات النسائية المؤهلة لدعم الاقتصاد. ومن ميزات استمارة الاستطلاع المكتوبة (الاستبانة) التي تعتمدها مراكز سبر الآراء، أنها تمكّن من جمع معلومات من عدد كبير من الأشخاص في وقت قصير وجهد قليل، كما أنها تصلح في البحوث التي تتطلب الحصول على بيانات سرية، ويمكن من خلالها جمع البيانات من المستفيدين بطريقة فردية أو جماعية، حيث لا يجعل استخدامها الباحث عرضة لتحيز بعض جامعي البيانات. متخصصون ساندوا السلطات المغربية في منع نشر وسائل الإعلام لنتائج استطلاعات الرأي لمدة شهر قبل موعد الانتخابات البرلمانية، وذلك حفاظا على مصداقيتها ونزاهتها ومن المؤسسات القليلة التي أعلنت عن النتيجة الصحيحة للانتخابات الأميركية، شركة “براندس آي” الجنوب أفريقية التي تحلل التدوينات في وسائل التواصل الاجتماعي. وانتهجت هذه الشركة طريقة مبتكرة ومختلفة تماما عن طرق الاستطلاع التقليدية، فهي تدفع بجمع البيانات لأشخاص في جميع أنحاء العالم من أجل التمحيص في وسائل الإعلام الاجتماعي، وهي عملية تعرف باسم الحصول على معلومات من الجمهور، ثم تستخدم نظاما حسابيا عبر الكمبيوتر لتصنيف شعور المستهلكين إزاء منتجات أو سياسيين. وأشارت هذه الطريقة إلى فوز ترامب، كما توقعت بشكل صائب نتيجة التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وستكون هذه الطرق الجديدة في حال نجاحها موضع اهتمام كبير من شركات استطلاعات الرأي التي لديها صعوبة في الوصول إلى مستخدمي الهواتف الخلوية أو الأميركيين الذين ينتابهم الضجر حيال الاستطلاعات. وتستند شركات استطلاع الرأي التقليدية إلى أسئلة تطرح على أشخاص يتم اختيارهم عشوائيا، وغالبا في مقابلات تجرى بشكل مباشر عبر الهاتف. ومن بين الأخطاء الأخرى التي وقعت فيها مؤسسات استطلاعات الرأي قبل الانتخابات الأميركية أنها أخطأت بشكل كلي تقريبا في تقدير توزيع إقبال الناخبين على الاقتراع بين المجموعات السكانية، لكنها تحفظ ولا يقاس عليها. :: اقرأ أيضاً العالم العربي على خطى القوى الكبرى نحو آسيا استفتاء إيطاليا.. صدمة سياسية كبرى لأوروبا بعد بريكسيت