يبدو لنا أن الحدث الأكبر الذي عاشته تونس منذ اندلاع ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011 إلى اليوم، يتمثل في الندوة الدوليّة للاستثمار التي انتظمت في الأسبوع الماضي. وإذ نصفها بالحدث الأكبر، فذلك لعدة أسباب موضوعية، سنحاول التوقف عند أهمها كي نتمكن من تحديد معاني انتظام هذه الندوة بدقة قد تضاهي دقة علم الاقتصاد وعوالم الاستثمار. أولاً تكمن أهمية هذه الندوة في ذاتها، حيث شارك فيها سبعون دولة وعرفت تنظيمًا موفقًا وانتباهًا أمنيًا ناجحًا، ذلك أنّه كان يمكن أن تسقط طموحات هذه الندوة في الأرض لو تمكن الإرهابيون من تسجيل هدف من أهدافهم التي تريد لشعوبنا الموت والانغلاق والجوع بمعانيه المختلفة. إذن النجاح الأمني ساعد تونس على تمرير صورتها كبلاد صالحة للاستثمار وقابلة للرهان عليها اقتصاديًا، ولتجديد الثقة في كفاءة نخبها الحاكمة على ضمان الحدّ الأدنى من الاستقرار. أيضًا لا تخلو نتائج هذه الندوة من تشجيع لتونس ودعمها عن طريق جمع تقديرات مالية تبلغ 34 مليار دينار، ستتحصل عليها في شكل قروض واتفاقيات وهبة وتعهدات واستثمارات. وفي الحقيقة يعد هذا الدعم العالمي مهمًا بشكل مضاعف، لأنه جاء في لحظة اقتصادية تونسيّة صعبة جدًا، تمظهرت بالخصوص في التأزم الاقتصادي وتوقف عجلة الاستثمار والتنمية، بسبب تزايد الاحتجاجات الاجتماعية، ممّا جعل بعض المستثمرين يختارون إغلاق منشآتهم ومغادرة البلاد. أيضًا أنتجت العمليات الإرهابية التي عرفتها تونس تداعيات سلبية على الاقتصاد وأضرت عميقًا بالسياحة التي تمثل مداخيلها ثلث ميزانية الدولة. كما أن النخب الحاكمة المتتالية استسهلت نهج الاقتراض، الأمر الذي أثقل كاهل الميزانية التّونسيّة وجعلها تتخبط بين المديونية مجحفة الشروط ومأزق إدارة العمليات الماليّة العادية، وعلى رأسها تأمين الرواتب، خصوصًا أن حجم العاملين في القطاع العمومي يصل إلى قرابة 70 في المائة من مجموع الناشطين في تونس. ففي هذا السياق نستطيع تحديد أهمية هذه الندوة الدولية للاستثمار باعتبار ربط نتائجها ووعودها بالصعوبات الاقتصادية، التي ما فتئت تتراكم وعبر عنها بشكل خاص تدهور الدينار التونسي المتواصل. أيضًا الذي يجعل الانتظارات التونسية ذات مشروعية بالنسبة إلى هذه الندوة، ليس فقط ما قدمته لها بعض الدول من هبات، بل الأساس يكمن في التعهدات في مجال الاستثمار، التي بلغت أكثر من مليارين، فالرّهان الحقيقي، لا يمكن أن يقوم على الهبات رغم رمزية معانيها وما تدل عليه من دعم وثقة، بقدر ما يتمثل في الاتفاقيات الخاصة بالاستثمار. ولكن المشكلة التي تواجه الحكومة التي تراهن على تفعيل الاتفاقيات والتعهدات وتعوّل عليها للإيفاء بوعودها للتونسيين، تتعلق بأنّها أمام آمال معلقة وتحققها واقعيًا مشروط بتجاوز مجموعة من الخطوات الضرورية. وهو في الحقيقة ما عبرت عنه صراحة وزيرة المالية التونسية قبل ثلاثة أيام، حين قالت إن تحول التعهدات والاتفاقيات إلى المرحلة العملية رهين مدى تقدم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، مبرزة أن المفاوضات المشار إليها تعاني من تعثرات. وكما هو معروف، فإن الإشكال يكمن في توتر العلاقة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل الذي رفض مطلب الحكومة بتعطيل الزيادة للأجور لمدة سنة. من هذا المنطلق، فإن نجاح النّدوة الدوليّة للاستثمار وضع المنظمات النقابية في تونس في مأزق حقيقي، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، فهو من جهة يرفض مطلب تعطيل الأجور، ويقول إن الحكومة لم تقم بتشريك الاتحاد عند صياغة قانون المالية لسنة 2017، ومن جهة أخرى يجد نفسه كأنه يعرقل عمل الحكومة ويعطل سير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. أغلب الظن، سينتهي الاتحاد إلى الرضوخ لصوت العقل مع إلزام الحكومة ببعض الشروط ولن يقف مانعًا لدوران عجلة الاستثمار في تونس، أي أن الحكومة التونسية مطلوب منها حسن إدارة التفاوض مع الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف، كي تُؤمن لنفسها شروطًا مقبولة للتفاوض الجيد والمرن مع صندوق النقد الدولي، دون أن نغفل طبعًا ضرورة العمل على ضمان الاستقرار الذي يعتبر المطلب الأساسي للمستثمرين الأجانب. إن ما قامت به الحكومة التونسية الراهنة من تشجيعات اعتبرها البعض مُبالغًا فيها للمستثمرين الأجانب، بقدر ما يعكس الانفتاح الاقتصادي والحرص على المحافظة على الشركاء التقليديين وإرساء شراكات جديدة كأفريقيا مثلاً، إنّما يمثل استيعابًا لشروط المنافسة واستيعابًا معمقًا لمشكلات الاقتصاد التونسي الذي لم يعد يحتمل أكثر الحياة دون استثمار وسياحة نشطة وتنمية متحركة. الجيد في الحراك السياسي الاقتصادي الذي أصبح يحظى بالتركيز أكثر من السابق أن الوعي بأن الأسباب التي من أجلها قامت الثورة لم يتم إشباعها، وأن تلك الأسباب قد تعمقت أكثر.