النسخة: الورقية - دولي تطرح التدخلات الفرنسية الأخيرة في أفريقيا الشمالية وجنوب الصحراء (ليبيا ومالي)، وتلك التي تبدأ الآن في جمهورية أفريقيا الوسطى، سؤالاً عن وجود الدولة في تلك المنطقة من العالم. وعلى رغم أن الأنّاسين (علماء الانتروبولوجيا) رصدوا في حقبة ما قبل الاستعمار وجود أنماط من المجتمعات – التي تقيم دولاً تمثلها ممالك وامبراطوريات، والمجتمعات المجزّأة المنتظمة على قاعدة القبائل وصلات القرابة والدم- يبقى أن الأولى تمثل سمات بعيدة جداً عن الدولة البيروقراطية العقلانية، تلك التي تمكن ملاحظتها في أكثر الدول المتقدمة. وحازت الامبراطوريات السودانية في القرون الوسطى (غانا ومالي وسونرايي)، وتلك التي تطورت ابتداء من القرن الثامن عشر (امبراطوريات رعاة السهوب في ماسينا وفوتا- دجالون ومملكة سيغو) سمات خاصة. وفيما مارس الأسياد سلطة مطلقة («فانغا») داخل النواة المركزية لهذه الكيانات السياسية، لم يكن الأمر كذلك في أطراف هذه الممالك التي تتحكم بها من بعيد، مستخدمة التفرقة للمُلك، بمعنى دفع القرى وسلالات القرابة والزعامات القبلية إلى مواجهة بعضها بعضاً. في نهاية القرن التاسع عشر، أسفرت الفتوحات الفرنسية عن تدمير إمبراطوريتي الحاج عمر وساموري وفرض جهاز استعماري بيروقراطي على مجتمعات تلك المنطقة. وغالباً ما كانت الإدارة الاستعمارية الفرنسية بعيدة عن ممارسة سلطتها مباشرة بل اعتمدت على وكلاء محليين وزعماء الأقاليم المتحدرين من الأسر النافذة القديمة أو ممن ظهروا مباشرة من كنف المستعمِر. وسم حصول هذه البلدان على الاستقلال في ستينات القرن العشرين بصفات القوة المستعمرة السابقة، على رغم أنها استوحت أحياناً بعض أساليب عملها من البلدان الاشتراكية (مالي وغينيا وغانا وغيرها). بيد أن ضعف أجهزتها السياسية المتلازم مع مناورات المستعمرين السابقين، أدى إلى سقوط سريع للدول التي حلت مكانها أنظمة عسكرية (موسى تراوري في مالي ولانسانا كونتي في غينيا وآخرون). الضغوط الفرنسية، خصوصاً الخطاب الذي ألقاه فرانسوا ميتران في لا بول في 20 حزيران (يونيو) 1990، ساهمت في طرد العسكريين من السلطة مبكراً، وبذلك أصبحت مالي نموذجاً للديموقراطية في أفريقيا بعد السنغال. وفوجئ المراقبون عندما تمكن ضابط بسيط في الجيش المالي هو النقيب امادو هايا سانوغو في 22 آذار (مارس) 2012 وبسهولة مدهشة، من طرد الرئيس امادو توماني توري من السلطة. ولم يكن في الوسع إنقاذ الدولة المالية وإعادة تشكيلها إلا بفضل تدخل الجيش الفرنسي. ومن دون الإتيان على ذكر الاستعمار الجديد أو الدولة الألعوبة، يظل مهماً القول إن ظروف ذلك التدخل العسكري وتبعاته تطرح سؤالاً عن طبيعة الصلة السياسية في مالي المعاصرة، نظراً إلى غياب الجهاز السياسي المركزي، بل كذلك عن وجود الدولة ذاتها في مالي وفي جزء كبير من أفريقيا. تنحصر الصلة السياسية في أفريقيا أساساً بمبادئ التدمير وإعادة التوزيع ذي الطابع الزبائني. وليس هناك أي معنى للحديث عن فساد بلاد يبدو فيها أن الأهم هو شغل مناصب في السلطة للتمكن من جلب الفوائد إلى الأهل والأصدقاء، ومن ينتمون إلى المنطقة ذاتها. من جهة ثانية، يبدو جلياً أن النظام كلما كان ديموقراطياً ولامركزياً والتزم إملاءات السياسات التي فرضها المسيطرون على الصناديق الدولية في التسعينات، كلما زاد خطر ظواهر التدمير وإعادة التوزيع. واخترقت جهاز الدولة المالي، مثل العديد من نظرائه في أفريقيا، شبكات تغذت من كل أوجه موارد القارة: الريع المنجمي والنفطي والمساعدات الدولية وتهريب المخدرات، خصوصاً في عهد أمادو توماني توري. ما من دولة وما من مجتمع مدني بالأحرى، بل شبكات يرتكز مبدأ عملها خصوصاً على المبادئ التي ذكرها (عالم الاجتماع الفرنسي) مارسيل موس في مؤلفه «دراسة حول المنح» (1924) أكثر مما يرتكز على أفكار العلوم السياسية الغربية. وما حصل في مالي ليس ظاهرة معزولة: بل نخشى تكراره في جمهورية الكونغو الديموقراطية حيث لا تمارس السلطة المركزية في كينشاسا سيادتها على مجمل أراضيها، وفي الصومال وشمال نيجيريا والكاميرون، وفي وسط أفريقيا وغيره العديد من مناطق القارة. وتشكل أفريقيا اليوم إطاراً لانهيار داخلي للدولة البيروقراطية ولإعادة تعريف للصلة الاجتماعية والسياسية البعيدة عن حمل طابع الصراعات الإثنية، لكنها تشهد على عودة صيغ متنوعة من إعادة التشكل الديني. انهيار الدولة يطرح على الدول المتقدمة والمنظمات الدولية مشكلات تتعلق بحفظ النظام في القارة، لكنه يتيح أيضاً للشركات المتعددة الجنسية وللقوى الكبرى الاستحواذ على المواد الأولية التي تحتاج إليها بأبخس الأثمان. * عالم إناسة، أستاذ جامعي في «المدرسة العليا للعلوم الاجــتماعية»، عن «لوموند» الفرنسية، 5/12/2013، إعداد حسام عيتاني