النسخة: الورقية - دولي بعد انتظار طويل دام أكثر من عشرة أشهر، ولدت حكومة الرئيس المكلف تمام صائب سلام من رحم حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. ومع أن إعلانها المفاجئ تأخر قليلاً بسبب التحفظ على حقائب الداخلية والطاقة والخارجية، إلا أن لغة التساهل والتسامح التي استخدمها رئيس الحكومة السابق ورئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري، ساهمت في تليين المواقف المتصلبة. وقد سانده في إظهار المرونة المطلوبة خطاب أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي ألقاه بمناسبة ذكرى استشهاد قادة الحزب. الجسور السياسية التي بناها سعد الحريري في خطابه عبر الشاشة يوم إحياء ذكرى والده، كانت تدعو إلى مساندة الشراكة مع الطائفة الشيعية، كما تدعو إلى الجزم بضرورة تجنب خيار الفراغ في موقع رئيس الجمهورية الماروني. صحيح أنه رفض الاقتداء بدور «حزب الله»... ولكن الصحيح أيضاً أنه رفض طروحات دولة «داعش» وجبهة النصرة، ومختلف الرهانات البعيدة من سقف «الطائف» وإعلان بعبدا (حياد لبنان) ووثيقة بكركي الوطنية. وفي هذا السياق، يرى المراقبون أن تغيير اتجاه مسار «حزب الله» بات يشكل حجر الزاوية في قدرة حكومة تمام سلام على الصمود في وجه الأعاصير التي تطلقها كتائب عبدالله عزام. من هنا، يمكن تفسير خطاب السيد حسن نصرالله على ضوء التحول التكتيكي الذي فرضته الأحداث الأخيرة، محلياً وإقليمياً ودولياً. وكان السيد حسن نصرالله قد استهل خطابه بالحديث عن الخطر الإسرائيلي، مؤكداً أن المقاومة تحافظ على جهوزية عالية وعلى قدرة متطورة لمواجهة العدو في أي وقت. ويُفهَم من هذا التلميح أن الحزب تلقى معلومات تفيد بأن اسرائيل قد تستغل ورطته في سورية كي تقوم بهجوم مفاجئ على مفاعلات إيران النووية. وبما أن الحزب بنى عقيدته القتالية على محاربة إسرائيل، فإن مشاركته في الحكم تؤمن له جبهة المساندة الداخلية الشعبية. كما تؤمن له أيضاً مساندة الجيش النظامي، الذي قال فيه: «أتمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه الجيش القوة الوحيدة التي تتحمل مسؤولية الدفاع عن لبنان.» وقد أيّده في هذا المجال رئيس المجلس نبيه بري، الذي نوَّه بدور الجيش في تنفيذ مهمة الأمن إلى جانب مهمة الدفاع. وعلى الرغم من أجواء التفاؤل التي أشاعها مؤتمر فيينا للمفاوضات مع إيران، إلا أن واشنطن ليست مرتاحة لموقف إسرائيل. والسبب أن رئيس قيادة الأمن القومي، يوسي كوهين، حذر الولايات المتحدة من التساهل في موضوع تخصيب اليورانيوم لأغراض عسكرية. وقد استبعد الرئيس باراك اوباما هذا الاحتمال، مفضلاً أسلوب الحوار على التورط في عمل عسكري. علماً بأن إسرائيل لا تشاركه هذا الرأي، ولهذا فهي ماضية في جمع أدلة استخبارية تؤكد مواصلة إيران العمل على صنع القنبلة الذرية. وفي هذا الشأن يقول بنيامين نتانياهو إن بلاده لن تعتمد على الإدارة الأميركية في إحباط البرنامج النووي الإيراني، وإنما ستقوم بهذه المهمة وحدها. وتفادياً لانشغال «حزب الله» بالشؤون المحلية اللبنانية، فقد شدد على أهمية إبقاء حالة الاستنفار والجهوزية قائمة في منطقة الجنوب. ومثل هذا الخيار يتطلب أقصى درجات التنبه والرصد. على الصعيد الديبلوماسي، فإن فشل مفاوضات جنيف قد فتح الأفق العسكري أمام مئات المقاتلين الذين عبروا الحدود التركية لمشاركة المعارضة في حربها ضد النظام. ومثل هذا التحوّل الميداني دفع بالرئيس السوري إلى طلب المزيد من المقاتلين الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين. لكن مشاركة «حزب الله» في حكومة تسوية -كما وصفها السيد نصرالله- ستخفف عن الحزب الاتهامات القائلة بأن نشاطه في سورية عزز فرص الإرهاب التكفيري في لبنان، بحيث أحيا مشروع كتائب عبدالله عزام و «جبهة النصرة». وكان الوضع الأمني في بيروت والبقاع قد شهد تدهوراً متواصلاً في ظل تواتر أنباء عن أن الجماعات الإسلامية المسلحة قررت الانتقام من «حزب الله» رداً على اشتراكه في القتال إلى جانب القوات النظامية. وعلى ضوء ذلك القرار، الذي زعزع الاستقرار الأمني، ظهرت السفارة الإيرانية في بيروت كهدف مركزي تناوب الانتحاريون على ضربه. والغاية من كل هذا توسيع حجم الخلاف الشيعي-السنّي في المنطقة وإبراز ايران كدولة معادية للمسلمين السنّة. ومع اتساع الهوة المذهبية، يتحول لبنان تدريجياً إلى ساحة مواجهة مفتوحة على مختلف الاحتمالات. قبل أن تعلن حكومة تمام سلام بيانها الوزاري، المتضمن حتماً فقرة أساسية عن محاربة الإرهاب، تبنت كتائب عبدالله عزام تفجيراً مزدوجاً ضرب مؤسستين إيرانيتين في بيروت. وكان الغرض من هاتين العمليتين إشعار الحكومة الجديدة بأن وجودها لن يغير في ثوابت التنظيمات المرتبطة بـ «القاعدة»، وأن مشاركة «حزب الله» في الحكومة ستزيد من تجدد العنف. كما تزيد من نشاط الجيش النظامي بحثاً عن السيارات المفخخة والمرسلة إلى لبنان عبر الحدود المفتوحة. كتب صلاح لبابيدي، قائد الشرطة في عهد الرئيس كميل شمعون، أنه واجه مشكلة أمنية بالغة التعقيد، ذلك أن عناصره المنتشرة في كل مكان من العاصمة اللبنانية، عجزت عن حل عقدة المتفجرات داخل دور العبادة. وكانت تلك المتفجرات توزع يومياً بالتساوي بين الكنائس والجوامع. ويقول في مذكراته إن الرئيس شمعون استدعاه للإعراب عن قلقه من عجز القوى الأمنية عن الحفاظ على سلامة المصلين داخل دور العبادة. وكان من الطبيعي أن يدافع قائد الشرطة عن كفاءة موظفيه، ثم يطالب بزيادة عناصر المراقبة على الشواطئ. ولما وافق شمعون على طلبه، أمر القائد بنشر تلك العناصر على طول الشاطئ الممتد من السان جورج إلى الأوزاعي. وبعد مضي فترة قصيرة، تبلغ لبابيدي أن خفر الأوزاعي رصدوا تحركات مريبة قرب مسبح السان سيمون. وتشير تلك التحركات إلى وصول قارب مطاطي عند حلول الظلام نزل منه شخصان كان أحدهما يحمل حقيبة يد. وعلى الفور صدرت الأوامر بضرورة تعقبهما لمعرفة الجهة التي يقصدانها، ولما تبلغ الرئيس شمعون بتفاصيل عملية التسلل، أعطى أوامره باعتقالهما فوراً. وانتقلت مفرزة مشتركة من الجيش والشرطة لمحاصرة المنزل الذي دخله الشخصان المجهولان. وبعد الاقتحام والتفتيش، اكتشف لبابيدي أن الرجلين كانا ينقلان في الحقيبة رزمة من الدولارات وحزمة من المتفجرات، كما عثر أيضاً على خريطة لشوارع بيروت تشير الى الكنائس والجوامع المستهدَفَة، واعترف الرجلان بأن «الموساد» جنّدهما لإحداث بلبلة طائفية تشغل اللبنانيين عن كل أمر آخر. وبعد مرور نصف قرن تقريباً على تلك الحادثة، كررت قوى خارجية استباحة الأراضي اللبنانية وزرع المتفجرات في الأماكن العامة، واستغلال الخلافات الطائفية والمذهبية لتمرير مشاريعها المشبوهة. وفي رأي علماء الجيولوجيا، فإن الزلازل لا تحدث إلا في الأرض المليئة بالشقوق. والعبرة من كل ذلك تنبئ عن وجود شقوق اجتماعية وطائفية عميقة لم تعرف الحكومات المتعاقبة كيف تعمل على ترميمها بحيث يبقى المجتمع محصناً ضد الاهتراء والتآكل. والمؤسف أن تلك الشقوق ظلت تجد من يملأها بالديناميت والبارود طوال سنوات الحرب. التوصية الأولى، التي تحملها لجنة صوغ البيان الوزاري، هي الابتعاد عن كل ما يفرِّق، والبحث عن كل ما يجمع ويهدئ. وهي وصفة طبية يسهل الحصول عليها من كل الصيدليات السياسية. ولكن الحاجة في هذا الوقت تقضي بأن ترتفع الحكومة الجديدة ببيانها وأهدافها إلى مستوى المخططين المجهولين، لا فرق أكانوا من جماعة «القاعدة» أم من كتائب عبدالله عزام. وكل ما يطلبه الشعب اللبناني من حكومته هو العمل على اكتشاف المتآمرين قبل تنفيذ تفجيراتهم المؤذية... وألا يكتفي حراس الأمن بالاستنكار وتصوير جثث الضحايا... عقب صدور مراسيم تشكيل الحكومة، أعرب رئيس الجمهورية ميشال سليمان عن تفاؤله بتأليف أول حكومة منذ عشرين سنة، يمكن أن يُقال فيها أنها صُنِعَت في لبنان. ومن المؤكد أن كل اللبنانيين يشاركون الرئيس سعادة الابتهاج بهذه الصناعة الوطنية، على أمل أن تبقى بعيدة عن مطرقة سورية وإيران! * كاتب وصحافي لبناني