النسخة: الورقية - دولي لا مبالغة في القول إن المشروع الإيراني/ الفارسي/ الشيعي في المنطقة بدأ يهتز بقوة، وحتى يترنح على طريقه إلى السقوط. في الوقت ذاته، لا حاجة للقول إن هذا السقوط إيراني داخلي، قبل أن يكون إقليمياً ودولياً، لسبب أساسي هو أن الاتفاق بين إيران ومجموعة الـ5+1 حول ملفها النووي كان إنقاذاً للنظام في طهران، كما قال أحد رموزه (رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الشيخ هاشمي رفسنجاني)، بمقدار ما كان ورقة نعي للمشروع بانتظار صدور شهادة الوفاة الرسمية. أبرز ساحات هذا المشروع، وأشدها ارتباطاً باستراتيجية نظام ولاية الفقيه الايراني وسياسته، هي سورية والعراق ولبنان، وفيها كلها يبدو المأزق الإيراني في أقصى تعقيداته، إلى درجة أنه بات ينعكس على إيران نفسها، شعباً واقتصاداً ومالية عامة وحتى تركيبة حكم، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على الثورة الإسلامية فيها وقيام النظام، وتالياً مشروعه الإقليمي في المنطقة وفي العالم. ففي سورية، وعلى رغم الدعم الإيراني غير المحدود بالسلاح والمال والمقاتلين لحرب نظامها المجنونة بقيادة بشار الأسد ضد شعبها، لم يعد يوجد دليل واحد على إمكان بقاء نظامها هذا على قيد الحياة، حتى لو أمكن على بقاء علاقات هذا النظام مع إيران ومشروعها الفارسي/ الشيعي/ الأقلوي في الإقليم. بل أكثر، فإنه بعد ثلاثة أعوام كاملة من حرب الإبادة الجماعية هذه وصمت العالم المريب على تورط إيران المباشر فيها، فضلاً عن مصرع أكثر من مئة وخمسين ألف سوري وتشريد حوالى عشرة ملايين وتدمير معظم المدن والبلدات والقرى، لم يعد نظام طهران نفسه يملك ما يخاطب به شعبه إسلامياً كما يدعي، لا في تبرير الحرب ولا حتى في توقع نجاح المشروع القومي الفارسي من خلالها أو بأمل الانتصار فيها. نظام يقتل شعبه بالطائرات والدبابات والأسلحة الكيماوية، فكيف لحامل لواء الدفاع عما يسمى شيعياً المظلومية التاريخية أن يجهر بالدفاع عنه؟! وعملياً، ففي واقع إيران الحالي لا معنى لكلام المسؤولين المكرر والمعاد فيها عن «النصر في نهاية المطاف» للنظام في سورية سوى هذا المعنى. تماماً كما لا معنى سواه لمبادرة النظامين معــاً، وفي آن واحد تقريباً، إلى التخلي عن سلاحيهما النووي والكيماوي لحساب العالم الغربي، ولإسرائيل بالذات، بعد أن «وصلت الموسى إلى الذقن» (ذقن النظامين) كما يقال في الأمثال الشعبية. وهل من يشك، بعد ذلك كله، في أن تبني الولي الفقيه علي خامنئي ترشيح، ثم انتخاب، المعتدل والإصلاحي حسن روحاني رئيساً للجمهورية، ومباشرة الأخير فور انتخابه حواره مع العالم الغربي حول ملف بلاده النووي، لم يكن إلا في السياق إياه: الاعتراف بفشل المشروع ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟! بل هل من معنى لقتال «الحرس الثوري الإيراني» و «حزب الله» و «لواء أبي الفضل العباس» العراقي إلى جانب النظام في سورية حتى الآن، سوى هذا المعنى: محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟! على الجبهة الثانية في العراق، لا تبدو حال المشروع الإيراني أفضل مما هي في سورية على الإطلاق. هي هنا ربما أكثر سوءاً وحتى تعقيداً، في ظل حرب أهلية مفتوحة على فتنة سنّية – شيعية تنخفض وتيرتها تارة، وترتفع تارة أخرى منذ أكثر من خمسة أعوام. كذلك، في ضوء اعتصام أهالي محافظات كاملة فيها (محافظات غرب العراق) لم يعترف إلا أخيراً جداً رئيس حكومتها المدعوم من إيران نوري المالكي بأحقية ما يطالبون به واستعداده لتلبيته، بل في بلد تغطيه الاغتيالات والتفجيرات والسيارات المفخخة من أقصاه إلى أقصاه (ثمانية آلاف قتيل في عام 2013 وحده) على خلفية هيمنة إيران والولايات المتحدة على السياسة والاقتصاد والأمن والفئة الحاكمة... وتالياً الكيل بمكيالين بين الناس فيه. وإذا كانت هذه الحال قد أدت ببعض قيادات العراق الشيعية، مثل مقتدى الصدر على رأس تياره والسيد عبدالعزيز الحكيم على رأس المجلس الأعلى، إلى التبرؤ مما يجري في العراق منذ انسحاب القوات الأميركية منه قبل سنوات، وحتى اتهام السلطة بالخضوع الكامل لأوامر تأتيها من خارج الحدود (الصدر، بعد اعتزاله العمل السياسي)، فإنها لم تفعل فعلها حتى الآن على صعيد تغيير سياسات سلطة المالكي، فضلاً عن تغيير السلطة نفسها. لكن ما يخرج من العراق بعد هذه الممارسات يشي بأن ضحيتها الأولى كانت المشروع الإيراني، ليس في العراق فحسب، إنما في المنطقة كلها أيضاً. وطنية العراقيين وعروبتهم واستقلال بلدهم وسيادته هي المهددة الآن، هذا ما يقوله معظم من يخرج من العراق في هذه المرحلة. وغني عن البيان أن هذا التهديد ينبع من المشروع الإيراني/ الفارسي/ الشيعي وتطبيقاته على الأرض العراقية أكثر من أي شيء آخر. على الجبهة الثالثة في لبنان، لا حاجة لتكرار القول إن أداة المشروع الإيراني الضاربة («حزب الله») فقدت في الفترة الأخيرة كل ما تغطت به في الأعوام السابقة تحت عنوان «المقاومة» في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، بعد أن وجه الحزب سلاحه إلى الداخل اللبناني بعد 2006، خصوصاً بعد أن تحول مقاتلوه إلى ميليشيا تعمل خارج الحدود في سورية، وربما لاحقاً في غيرها، مع ما ألحقه ذلك من أضرار بالحزب الذي طالما أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله أنه «مجرد جندي في جيش الولي الفقيه»، وبإيران ومشروعها الإقليمي، فضلاً عما سمي «جبهة المقاومة والممانعة» التي تحولت، في سورية تحديداً، إلى جبهة لمقاومة الشعوب التي تطالب بحقوقها في الحرية والكرامة وللدفاع عن الاستبداد والقتل الجماعي حماية للنظام الذي يمارسهما منذ أعوام، ولا يزال حتى الآن. ولعل ما شهدته عملية تشكيل الحكومة اللبنانية في الشهور الماضية، ولاحقاً مساومات صوغ بيانها الوزاري لجهة مقولة «الجيش والشعب والمقاومة» وزميلتها الخاصة بـ «الثلث المعطل»، تكفي للقول إن الحزب نفسه بدأ يعترف باهتزاز موقعه في الحياة السياسية في لبنان... وبالتالي اهتزاز ما أعلنه نصرالله جنباً إلى جنب مع حليفيه بشار الأسد والرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد من دمشق عن «جبهة الشعوب المقاومة لإسرائيل» بما فيها لبنان من دون أن يفوضه أحد بذلك أو يسأل أحداً عنه. فهل يمكن الحديث بعد الآن عن مشروع إيراني - إقليمي، فضلاً عن مشروع فارسي/ شيعي، في ظل ما تشهده ساحات المشروع الأساسية في سورية والعراق ولبنان؟ * كاتب وصحافي لبناني