منذ زمن طويل، لم تلق قرارات الرئيس الفرنسي تجاوبا من الرأي العام. فلا سياسته كانت موضع تقدير ولا شعبيته كانت بمستوى طموحاته وتليق بالوظيفة التي يشغلها منذ أربعة أعوام وسبعة أشهر. وفي معمعة التحضير للانتخابات الرئاسية، كانت استطلاعات الرأي تفيد أن فرنسوا هولاند سيحل في إحدى المرتبات الأخيرة، حيث لم تتجاوز نسبة الراغبين بالاقتراع لصالحه الخمسة في المائة، وهي نسبة لم يعرفها من قبل رئيس سابق. لكن الأمور انقلبت ليل أول من أمس رأسا على عقب. وبعد أن أعلن الرئيس الحالي أنه سيمتنع عن خوض السباق الرئاسي لولاية ثانية، فإن استطلاعا للرأي بينت أن 82 في المائة من الفرنسيين يؤيدون قراره، بمعنى أنهم لا يريدونه مرشحا ولا رئيسا، بينما رأى 4 في المائة فقط العكس. ووصلت نسبة المؤيدين لعدم ترشحه إلى 86 في المائة لدى محازبي اليسار و86 في المائة لدي مناصري اليمين. وبالطبع، أتاحت الرحلة التي قام بها هولاند أمس من باريس إلى أبوظبي والتي تدوم ست ساعات ونصفا الفرصة للرئيس المغادر أن يتأمل تقلب الرأي العام ومطبات السياسة وخصوصا أن يستحضر فيلم السنوات التي أمضاها في قصر الإليزيه ليرى أين تكمن الأخطاء التي أوصلته إلى هذه النهاية المحزنة. كانت الساعة الثامنة تماما عندما أطل هولاند على شاشات التلفزة مع شحوب الوجه وضعف الصوت. وبتأثر بالغ أخذ يعرض ما حققته ولايته من إنجازات اجتماعية واقتصادية وما قام به لمحاربة الإرهاب والحفاظ على أمن المواطنين واستمر في تعداد إنجازاته حتى الدقيقة السابعة «من أصل الدقائق العشر لكلمته» التي عندها لفظ الجملة الرئيسية التي كان الفرنسيون متلهفين للتعرف على مضمونها. جملة من عشر كلمات: «لقد قررت ألا أكون مرشحا للانتخابات الرئاسية». بذلك يكون هولاند قد أسدل الستارة على مسلسل من التشويق والتأجيل عنوانه الكبير: هل سيترشح أم أنه لن يترشح؟ كثيرون من صفوف اليسار يعتبرون أن هولاند «خان الأمانة» أي أنه لم ينفذ البرنامج الاقتصادي - الاجتماعي الذي انتخب على أساسه والذي يمكن وصفه ببرنامج «تقدمي - يساري» ولم يستطع أن يحقق الوعود التي أغدقها على ناخبيه. فلا البطالة تراجعت ولا القدرة الشرائية للطبقات الدنيا والوسطى ارتفعت كما أنه انتهج منذ عام 2014 سياسة ليبرالية لصالح أرباب العمل أكثر منها لصالح الموظفين فخفف الضرائب عن الشركات، فيما زادت الضرائب على الشرائح الوسطى في المجتمع. وقبل شهور، أصدر قانونا جديدا للعمل رأى فيه اليسار تراجعا عن مكاسب العمال التي تحققت بفضل سنوات النضال الطويلة والمضنية أكان ذلك بخصوص سن التقاعد أو الحماية التي يتمتع بها الموظف والعامل أو الضمانات والتعويضات الاجتماعية. وخلال شهور، نزل الموظفون والعمال والطلاب إلى الشوارع وتزايدت الإضرابات. ثم جاء اقتراح نزع الجنسية عن الأجانب الذين يتبين أنهم على علاقة بنشاطات إرهابية ليحدث شرخا في المجتمع الفرنسي وخصوصا داخل صفوف اليسار فتشكلت مجموعة برلمانية من خمسين نائبا حاربت المشاريع الحكومية. ومع الأيام، انفض التحالف الذي كان يدعم هولاند فخرج البيئيون «الخضر» من الحكومة واستقال وزراء الاقتصاد والثقافة ثم وزيرة العدل والأخيرة بسبب مشروع نزع الجنسية. ثم استقال وزير آخر للاقتصاد: «إيمانويل ماكرون» الذي جاء به هولاند إلى قصر الإليزيه مستشارا ومساعدا لأمينه العام ثم وزيرا للاقتصاد. وتراجعت «هيبة» الرئيس أولا بسبب كتاب أصدرته رفيقة دربه السابقة فاليري تريرفايلر التي دخلت معه قصر الإليزيه بعد أن اكتشفت علاقته بالممثلة جولي غاييه وخيانته لها وبعد نشر صور هولاند ممتطيا دراجة نارية للالتحاق بعشيقته على مسافة أمتار من الإليزيه. وأخيرا جاءت الضربة القاصمة قبل شهرين عندما نشر صحافيان في جريدة «لو موند» كتابا هو عصارة ستين لقاء مع هولاند، وفيه يتحدث هولاند بكل صراحة عن رأيه بالمحيطين به وبعدد من كبار المسؤولين والوزراء ويكشف عددا من الأسرار التي لا يتعين على رئيس الجمهورية كشفها بتاتا، ما أثار موجة من الانتقادات لا بل دعوات إقالته من منصبه. سياسيا، لم تكن الأمور أفضل حالا بالنسبة لهولاند. فمع اقتراب الاستحقاق الرئاسي، تم التوافق بداية الصيف على أن يتنافس الراغبون في الترشح للانتخابات الرئاسية للفوز بترشيح الحزب الاشتراكي بداية، وهو ما جرى في الانتخابات الماضية وهو ما قام به اليمين وأفضى إلى فوز رئيس الوزراء السابق فرنسوا فيون بترشيح اليمين والوسط. لكنها كانت المرة الأولى التي يلزم بها رئيس جمهورية يمارس صلاحياته بـ«النزول» إلى حلبة الانتخابات التمهيدية، بل العرف أن يكون المرشح «الطبيعي» الذي لا يحتاج لموافقة من أحد. والحال أن هولاند قبل قواعد اللعبة، معتبرا أن الانتخابات التمهيدية ستكون مفيدة له لجهة إعادة تأكيد شرعيته كرئيس ومرشح. لكن ما حصل أن سبعة مرشحين قرروا خوض المنافسة بينهم اثنان من وزرائه السابقين «أرنو مونتبورغ وبونوا هامون»، وهما ينتميان إلى الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي. والأسوأ من ذلك أن هولاند لم يكن متأكدا من الفوز في الانتخابات التمهيدية ولا من قدرته على لملمة أشلاء الحزب الاشتراكي. ولو فرضنا جدلا أنه قد فاز بها، فإن استطلاعات الرأي تبين كلها أنه سيعجز عن الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، حيث عليه أن يتنافس مع مرشح لليسار المتشدد و«بطله» جان لوك ميلونشون ومع وزيره اقتصاده السابق إيمانويل ماكرون ومع مرشحين آخرين إضافة إلى مرشحين من «الوزن الثقيل» وهما فرنسوا فيون ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان. يقول المثل: اللهم احمني من أصدقائي أما أعدائي فإنا كفيل بهم: فبعد «خيانة» ماكرون الذي ترك الحكومة وأسس حركة سياسية اسمها «إلى الأمام» وأعلن ترشيحه رسميا متحديا بذلك سلطة هولاند، عانى الأخير من رئيس حكومته مانويل فالس الذي مارس أقسى الضغوط عليه ليمنعه من الترشح لولاية ثانية وذهب إلى حد الإعلان أنه قد يترشح ضده في انتخابات اليسار التمهيدية. وحجة فالس أن هولاند بالغ الضعف وأن ترشحه في هذه الحالة ستكون نتيجته الفشل الذريع وسيدفع إلى تشظي الحزب الاشتراكي وإلى خروج هولاند من السياسة من بابها الضيق ذليلا، إذ سيكون أول رئيس للجمهورية يفشل في التأهل للجولة الثانية من الرئاسيات. وبعد استشارات موسعة، اختار هولاند أن ينكفئ وأن يكرس ما تبقى من ولايته لإدارة شؤون الدولة وليس للاهتمام بالانتخابات الرئاسية. وكانت النتيجة، كما أسلفنا، أن أكثرية ساحقة من الفرنسيين أيدت قراره. جاءت ردود الأفعال على قرار هولاند، كما كان متوقعا، متناقضة. فاليمين رأى فيها اعترافا بالفشل. وقال المرشح اليميني فرنسوا فيون في بيان له إن رئيس الجمهورية «فهم أن فشله الذريع (في إدارة شؤون فرنسا) يمنعه من الذهاب أبعد من ذلك، حيث إن عهده ينتهي في حال من الفوضى السياسية وتهافت السلطة». وأضاف فيون أن «تبدل السلطة واستنهاض فرنسا يتعين أن يتما على أسس صلبة». أما الوزير ة السابقة والمرشحة اليمينية السابقة فقد اعتبرت أن الفرنسيين «لم يعد يرغبون بفرنسوا هولاند ولا بسياسته». وقال برنار أكوايه، أمين عام حزب «الجمهوريون» اليميني فقد اعتبر ا: «إنسحاب هولاند المبكر وغير المسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة اعتراف بالفشل لما قام به خلال عهده» وهو ما قالته مارين لوبن. أما في الجهة المقابلة، فقد اعتبر اليسار أن بادرة هولاند «نبيلة» للأنه يفضل المصلحة العامة على مطامحه الشخصية. وقال مانويل فالس في بيان إن ما قام به هولاند هو «خيار رجل دولة» معبرا عن «تأثره واحترامه ووفائه» لـهولاند فيما وصف ماكرون خطوة الرائيس بأنها «شجاعة ولائقة». أما المرشح الاشتراكي مونتوبورغ فقد رأى فيها فرصة للحزب الاشتراكي لكي «يحضر مستقبله». ما هي التتمة؟ الجميع ينتظر أن يعلن إيمانويل فالس عن استقالته من رئاسة الحكومة ليتفرغ تماما لترشيحه المفترض أن يكشف عنه في الأيام القليلة القادمة. لكن خبراء السياسة في فرنسا يرون أن مهمة فالس ستكون صعبة إزاء تفتت الحزب وتضارب الطموحات، فيما المهمة الأصعب هي التمكن من الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الربيع القادم. تاريخ رؤساء الجمهورية الخامسة * هولاند جاء بسابقة، إذ إنها المرة الأولى التي يمتنع فيها رئيس للجمهورية الخامسة عن الترشح لولاية ثانية. - الجنرال شارل ديغول، مؤسسها في عام 1958، ترشح لولاية ثانية وفاز بها. - جورج بومبيدو خليفة ديغول في قصر الإليزيه لم ينه ولايته الأولى لأنه توفي في الإليزيه بمرض السرطان. - فاليري جيسكار ديستان الذي سعى للفوز بولاية ثانية لكنه أخفق في التغلب على المرشح الاشتراكي فرنسوا ميتران الذي بقي 14 عاما في المقر الرئاسي. - وبعده جلس مؤسس حزب التجمع من أجل الجمهورية على الكرسي الرئاسي في عام 1995 لولايتين: الأولى من سبع سنوات والثانية من خمس سنوات. وسلم شيراك الأمانة ليميني آخر هو نيكولا ساركوزي. - ساركوزي أخفق في الفوز مرة ثانية في عام 2012 ليحل مكانه فرنسوا هولاند. - لكن هذا الأخير وجد نفسه في موقع لا يتيح له الترشح، فرأى بعد كثير من المماطلة والتأمل وخصوصا بعد أن نظر في ميزان القوى بين اليمين واليسار وداخل الحزب الاشتراكي أن من الأجدر له أن يصرف النظر عن ولاية جديدة سيكون من الصعب جدا الفوز بها.