مهلاً.. لا أنوي الحديث عن فيلم المخرج يوسف شاهين الشهير "إسكندرية ليه" الذي صدر عام 1978م، وتناول فيه جانباً من سيرته الذاتية في الإسكندرية، زمن الحرب العالمية الأولى، بل أحاول أن أبحث عن إجابة لسؤال طالما سمعته من أغلب الأصدقاء الذين لا ينتمون لمدينة الإسكندرية بصيغة مباشرة وغير مباشرة، مستنكرة ومتسائلة: "إسكندرية ليه؟"، وبعبارة أخرى أكثر توضيحاً "ما الذي ترونه في هذه المدينة؟". يحمل هذا السؤال في طياته محاولة لفهم ما الذي يميز سمعة "الإسكندرية" التي يراها البعض تتسم بالمغالاة والمبالغة، ولا تقارن بما يحمله السكندريون من اعتزاز وفخر بها قد يصل لحد الغرور أحياناً. هل نحن هكذا حقاً؟ لا نرى حال الإسكندرية اليوم بعيون الآخرين، هل نبالغ في تقدير مدينتنا ونُفخّم من ذواتنا على حساب الحقيقة؟ حسناً.. إن الإجابة عن هذا السؤال دفعتني إلى التفكير ملياً قبل أن أستطيع تقديم سبب مقنع للآخرين لشرح وجهة نظر "السكندريين" في مدينتهم الغراء. لكن قبل أن نخوض في شرح الأسباب علينا أن نعرف أولاً عن أي "إسكندرية" نتحدث؟ عن أطياف مدينة "الإسكندر الأكبر"، حين تحولت عاصمة مصر لتواجه البحر المتوسط عن مجد الإسكندرية القديمة، عن مكتبتها العالمية وفنارها الباهر، الإسكندرية التي نُسجت حولها الأساطير لجمال عمرانها، وبهاء عمارتها القديمة، عن أرض ملوك البطالمة، ومن بعدهم قياصرة الرومان حتى سُميت يوماً "الإسكندرية المتاخمة لمصر"، تمييزاً لها عن أي بقعة أخرى في مصر.. كلا. ربما نبحث عن تلك المدينة التي فتحها عمرو بن العاص عام 21هـ/641م، فتوارت إلى الظل لعقود طويلة مع احتفاظها ببعض من سماتها وثقافتها وتخطيطها عن المدن المصرية الأخرى، أرض المجاهدين في سبيل الله، رباط مصر البحري وثغره التي قدم إليها أولياء الله الصالحون من الأندلس والمغرب، وتركوا لنا أضرحتهم ومساجدهم تُخلد ذكراهم، "أبو العباس المرسي"، و"الشاطبي"، و"الطرطوشي".. تلك الإسكندرية التي تعرضت يوماً لهجوم القبارصة في العصر المملوكي، فرد لها السلطان الأشرف برسباي شرفها وعزَّها لما قام بإرسال حملة تأديب لقبرص، وقام بالقبض على ملكها "جينوس بن جاك"، ووُضع مقلوباً على الحمار في موكب النصر، مقيداً بالسلاسل في القاهرة، عاري الرأس عقاباً له وللقبارصة على أفعالهم السابقة، الإسكندرية التي تذكرها أخيراً السلطان المملوكي قايتباي فقام بالاهتمام بها وبتحصينها ببناء قلعته محل موضع الفنار القديم الذي اختفى تماماً.. كلا. بل هي الإسكندرية الحديثة التي أعاد إليها الروح حُكم "محمد علي باشا"، المقدوني الثاني، قدر المدينة أن تحيا على يد أبناء مقدونيا، الإسكندر أولاً ثم محمد علي، وبعد اهتمام محمد علي بشؤون المدينة وتجميلها، ووفود الأجانب إليها من كل حد وصوب، فتولد المدينة العالمية من جديد بين 1860 و1960م، إنها العاصمة الثانية المدللة، حين تجسّدت روح المدينة في "ميدان القناصل" أو ميدان المنشية اليوم، حياة أوروبية من الطراز الأول، وكالات وفنادق يديرها الأجانب، باريس صغيرة في أرض مصر، وشيئا فشيئاً ابتعدت تلك المدينة التي يحكمها مجموعة من الأجانب عن باقي المدن المصرية تعالياً وتميزاً. ربما ورث أهل الإسكندرية هذه الطباع بعد رحيل الأجانب عنها في أعقاب ثورة يوليو/تموز 1952م، أم يبدو أنهم ورثوا عن المغاربة الذين استوطنوا الإسكندرية حين كانت معبر الحج والتجارة بعض سماتهم كالحديث بصيغة الجمع أو "اللهجة السكندرية" المميزة، حتى أبرز شوارع المدينة التجارية "زنقة الستات". الذي يظن الكثيرون أن تسميته نابعة من ضيق هذا الشارع، والحقيقة أن زنقة كلمة مغربية بمعنى شارع! نعم.. تماماً كما قالها الرئيس الليبي معمر القذافي في مشهده الأشهر: "زنقة زنقة.. ودار دار". الأمر المؤكد أننا لا نقصد الإسكندرية الموجودة اليوم، تلك المدينة الكبرى التي فقدت رونقها، وصارت مزدحمة مكتظة، لا يمكن لأهلها بسهولة التمتع برؤية شاطئها الممتد بطول المدينة، هل أصابها ما أصاب القاهرة من تضخم وامتداد حد الغربة بين أطرافها؟ ربما نفخر بمدينتنا التي تحمل طابعاً فريداً، هي ليست بحجم وأهمية العاصمة، لكنها ملجأ الذكريات، والمهرب من قيظ الصيف لأبناء الدلتا، وموضع غبطة أهل الصعيد، هي المدينة التي غنت لها جارة القمر فيروز "شط إسكندرية"، ووصف محرم فؤاد بنت الإسكندرية بأنها: "غزال إسكندراني"، وتذكّر محمد قنديل أحبابه فناداهم: "يا غاليين عليا يا أهل إسكندرية". ما زالت صورة "بنات بحري" والألفاظ "السكندرية" وطريقة نطق الكلمات المختلفة عالقة في ذاكرة البعض، لكننا بكل تأكيد لا نتلفّظ بكلمة "أيوّووه" كما تظهر في الدراما التي تحاول أن تؤكد أصالة الإسكندراني فتجافي الحقيقة! أسماء شوارع وأحياء الإسكندرية تشبه تركيبة سكانها، فهي مزيج من القاطنين الأجانب مختلط بذكرى أوليائها وشيوخها، أسماء الخواجات: سموحة، لوران، زيزينيا، فلمنج، جليمو نوبوبلو (جليم)، جناكليس.. والأولياء: سيدي جابر، وسيدي بشر، والقباري.. والقائمة تطول، وما زلنا نحمل بين أرواحنا ذكريات قديمة للإسكندرية وشوارعها المميزة، أو بالأحرى ما بقي منها ومن طراز عمائرها الأوروبية. ما لا يدركه الآخرون أن كونك سكندرياً هو شعور داخلي، حالة تتلبس الإسكندراني الأصيل، لقد درجنا على الشعور بالتميز والاختلاف، نتبسم ونحن بقرب البحر، ونضيق بجوار النيل، نسعد في الشتاء؛ لأن المدينة تخلو من الزحام وتعود لأهلها وعشاقها، نعم كل محبي الإسكندرية يعلمون أن الإسكندرية لا تحلو إلا في فصل الشتاء، حين يغسل شوارعها المطر، ويقذف البحر الهائج بعضاً من مياهه المالحة على الشوارع، المشي على كورنيشها في ليالي الشتاء الباردة كفيل بخلق حالة عشق وشجن وتأمُّل بداخلك لا تعرف كيف نبتت في قلبك فجأة، جو مثالي للمتعة والحب والجنون. يبدو أنني أخفقت في الإجابة عن السؤال بصورة واضحة، فكيف لي أن أصف ذكرياتي عن موطني، أو أن أشرح إحساسي به، أو أن أحاول أن أرسم صورة حالمة للإسكندرية بالنظر لحالها الآن. إن لم تجد إجابة وافية لديَّ فأنا أدعوك لزيارة الإسكندرية، فلتأتِ وتمشِ بين شوارعها، وتتأمل بحرها، وتزور أحياءها القديمة الأصيلة.. "بحري"، و"كوم الدكة"، و"المنشية"، و"محطة الرمل" لعلك تجد الحقيقة، وتجيب بنفسك عن السؤال: "إسكندرية ليه؟". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.