×
محافظة المنطقة الشرقية

هيئة التقييم: لم يحصل أي أحد حتى الآن على شهادة التقييم العقاري

صورة الخبر

لوحة سريالية أعيش خارجها، بدءاً من الصباح النشط لتجهيز حاجات "الزيارة"، وانتهاءً بذلك الوقوف الطويل في حرارة أغسطس/آب لتسلُّم هوياتنا بعدها! تفاصيل اليوم كله خارج إطار المعقول، أنظر إلى الناس، أحاديثهم، لهفتهم لرؤية منقوصة تذيب بعض الشوق، وتعيد مراكمته مرة أخرى. من الوجوه تتبين، هذه أم خلف تلك الأسوار اللعينة يوجد لها قطعة من قلب، وتلك زوجة لها وراء الأبواب الحديدية الصمّاء عمر مهدور، وهذا أخ قد أخذ قهر الرجال من ملامحه ما أخذ! لوحة سريالية، لا تحمل أي شيء من المنطق، لماذا يتكبد هؤلاء رهق المعاناة؟ ولماذا هم هنا أصلاً؟ ومن يكون السجّان؟ ومن هو المسجون؟ وما قوة العالم في أن يمنع حرية إنسان؟! ماذا مثلاً لو قررنا في لحظة جنونية ما أن نقتحم عليهم ضعفهم، ونختبر لمرة واحدة قوة غضبنا؟! تدور الأفكار في رأسي، ومِن حولي همهمات حديث حول الممنوع والمسموح من المأكولات، الملبس والمشروبات، يتواطأ الجميع على ذلك هرباً من الفكرة الجليّة هنا، أن هذا كله حيلة العاجز، أسباب بقاء في الحياة، لكن الحياة نفسها قد سُلبت، ولا يملك أحد ردّها، تذهب بسلة الطعام وكأنك تخبرهم: لا ننساكم، نهتم بكم بالقدر الذي يسمح به السجّان! يطول الانتظار، والسؤال يلحّ علي: هل كانت ستنتهي حياة "رجب" بالطريقة ذاتها إذا لم يوقّع ورقة الاعتراف الأولى؟ لو بقيت كلمات أمه تقوّي من جسده الذي أكله المرض حينما قالت: "اسمع يا رجب أنا أمك، وأنت قطعة من لحمي، وليس في هذه الدنيا أحد يعزك مثلي، لكن لا تسمع كلام عمتك. ماذا تقول للناس؟ لأصدقائك غداً إذا اعترفت وخرجت؟ الحبس يا ولدى ينقضي، افتح عيناً وأغمض عيناً، تمرّ الأيام ويبقى رأسك مرفوعاً". ماتت أمّ رجب، فانهارت حصون دفاعه، وانهار معها "يباسة رأسه"، كما يقول عنها مأمور السجن، ولم يجد حرجاً في أن يهرب بما بقي من صحته وعمره بالاعتراف، كان ذلك بعد خمس سنوات تامّات، يمكنك هنا أن تلومه - أو تلوم صاحب الرواية - على عناده، إن كانت النهاية محتومة بالاعتراف بالهزيمة فلماذا يطول وقت السجن؟ كلنا مهزومون فانفد بعمرك وعدّ إلى كنف الحياة قبل أن يسرقك الوقت. في "غرفة الزيارة" للمرة الأولى، ما زلت خارج المشهد، كطائر يحوم في الأفق، نظره في المكان وعقله بين أسئلته المزعجة. العين ترى ما تريد، ولا أرى سوى فتيان ترتبك ملامحهم بين الطفولة والشباب، يسلّم على أمه كطفل عاد لتوّه من روضته، وعلى أبيه كفارس عاد من معركته، ربما هو نفسه لا يدري من يكون، ذلك الصغير الذي يبكي حنيناً رِفقة أصحابه في فصلهم الدراسي، أم الكبير الذي يواجه ظُلمة السجن والسجّان! هنا، أنتبه إلى عيني أخي الغائرتين، يبدو فيهما الوهن، لكن الحماسة لم تنطفئ تماماً، أعدد شعيرات بيضاً نبتت في لحيته القصيرة فيأخذ يدي مازحاً: "شيبتنا هود"، ابتسم وكأني أعرفه للمرة الأولى. خياراتنا لا تنفصل عنّا، وكذلك سِعة احتمال أثمانها، ربما لو كان القرار لي، لما دفعت بأخي في مواجهة محسومة مع دولة عجوز طائشة، لكنت - بأنانية مفرطة - سيّجته بخوفي، وحميته من نفسه كما أظن، ربما لم يكن ليقضي ثماني سنوات في السجن لا نعلم متى تنتهي، لكن عزائي الوحيد هنا، أنه لم يكن يليق به سوى خياره، ولا يجدي معه سوى قراره الشخصي تماماً. عزائي أني لا أريد أن أكون "أنيسة" أخت رجب، دفعته للخروج تحت وطأة الحب والخوف، اعترف بما لا يريد، فخرج من سجنه حاملاً حريته، تاركاً قوته ومقاومته ورفعة رأسه.. فخسرته من حيث لا تدري! نعود لنقول: "خياراتنا انعكاس رؤيتنا لذواتنا، مواقعنا في خرائط الوجود، قيمنا التي نحملها تيجاناً فوق رؤوسنا أو أثقالاً على كواهلنا، وأنه في واقع الهزيمة المرير لا تلوم أحداً على خياره، في الهزيمة يحاول الجميع أن ينجو بنفسه، منهم من ينجو بالهرب، ومنهم من ينجو بامتثال القيمة مجرّدة في صورتها الأولى، في الحالين سندفع الكُلفة كاملة حتى حين". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.