النسخة: الورقية - دولي بات هناك تقليد سنوي عند قوى ١٤ آذار، يبدأ باعترافات علنية بالفشل والأخطاء، لتليها ورشات إعادة تأسيس وتصويب للنهج السياسي، وتختتم بتأكيدات عاطفية على صلابة التحالف الذي لن يفكّه إلاّ الموت. تطوّر هذا التقليد على مدار السنوات الأخيرة كردّ فعل على الشعور باليأس الذي استحوذ على جمهور هذه القوى إثر إخفاقات قياداتها المتتالية وتقلّباتها الدورية، المفسّرة بتبريراتٍ شرعيّتها الوحيدة أنّها مستقاة من أقوال الرئيس الشهيد. اعتاد ما تبقى من هذا الجمهور النظر بشيء من الاستخفاف إلى هذا التحالف وممثليه السياسيين، مبرراً دعمه لهم بالخطر الأكبر الذي يشكّله البديل، وإن كان هذا التبرير غير كافٍ للتغاضي عن الإحساس الدفين بالخجل أو الحرج تجاه ما آلت إليه الأمور. في المقابل، واجه جمهور ٨ آذار خصومه بإحساس بالثقة بالنفس بلا حدود. وكانت تلك الثقة بالنفس وبالخيار السياسي وزعيمه المتلفز، الترجمة النفسية للتفوّق العسكري الذي أحرزته تلك القوى، غير أنّها كانت أيضاً تعبيراً عن تماسك تلك القوى وقدرتها الإعلامية على إنتاج خطاب لفّق بين «هوبرة» المقاومة ومحاربة الفساد وبقايا تنظيرات اليسار الدولي، ما أضفى على الانتماء الطائفي أبعاداً أوسع. وقدّم هذه التلفيقة زعيم كاريزمي جعل السياسة وتعقيداتها امتداداً لسلاسة عملية ضرب بارجة في البحر، ليجعل من هذه التلفيقة سلاحاً فتاكاً في وجه يأس الخصوم وحرجهم. غير أنّ اليأس حتمي في السياسة، وما شكا منه جمهور ١٤ آذار بدأ يتسرّب إلى الخصم، مفقداً إياه ثقته التي واكبت سيرورته السياسية. بدأ المشوار نحو اليأس مع فشل حكومة اللون الواحد، واستكمل بالفضائح التي طاولت «حزب الله» وحلفاءه أخيراً، لتأتي الثورة السورية وتقضي على ما تبقى من وضوح في خطاب هذه القوى. ومن حركة عابرة للحدود، تُمثِّل التحام القوة بالحقيقة والتاريخ، تحوّل «حزب الله» إلى قوى طائفية، أملها الوحيد في وجه تكاثر البرابرة مرهون بتفوقها العسكري. بيد أنّ هذا التفوق بدأ ينحسر، أولاً في سورية حيث النصر الأكيد بات مكلفاً، ومن ثمّ في لبنان مع تزايد العمليات الانتحارية والتفجيرات التي طاولت معاقل «حزب الله». وفي هذا الظرف الحرج، جاءت حكومة «التلاقي»، كما سمّاها الأمين العام للحزب، لتؤكد أنّ اليأس بات حتمياً ومعمّماً. في وجه هذا الامتعاض، حاول نصر الله استدراك الأمور خلال خطابه الأخير في مناسبة ذكرى «الشهداء القادة». غير أنّ ما كان من المفترض أن يكون خطاب رفعٍ للمعنويات تحوّل سريعاً إلى خطاب كاشف لليأس في شتّى تجلّياته. بدا اليأس في بداية الخطاب مع الاستغراب الأليم لنصرالله عن ضياع الحقيقة وضرورة التذكير بـ «بديهية باتت منسية للأسف عند كثيرين»، أي مركزية القضية الفلسطينية. اكتشف نصرالله في هذه اللحظة أنّ حقيقته لم تستطع مقاومة يوميات الحياة وحدودها. فبعد الاسترسال في الكلام عن مساوئ العدو، استنتج أنّ «كل بلد اليوم ينشغل ببلده» وأن دعوته إلى تحرير فلسطين سوف تُقابَل بعبارة «حلّ عنا». لم يتوقف نصرالله عند معنى أنّ يكون الجميع غيّبوا هذه «البديهيات» كما يسميها، وأن تكون هذه هي الحال «بعد كل انتصارات محور المقاومة». فهذا ليس خطاب تراجع أو استبطان. إنّه خطاب رفع معنويات وإنّ أخذ شكل التوبيخ. ختم نصرالله الفقرة الأولى بشكوى من أنّ «لا أحد فاضي لفلسطين». غير أنّه تبيّن من مجرى الكلمة التي ألقاها أنّه هو أيضاً غير «فاضي» لفلسطين لمشاركته بحرب أخرى مع عدو جديد، وهذه الحرب، كسائر حروب «حزب الله» ستنتهي بنصر حتمي. هذا ما أكّده نصرالله، بعد تحليل طويل يصلح أن يكون تتمة لنشيد «نصر يبرود». غير أنّه لم يستطع إلاّ التنبيه إلى أن الآتي أعظم وفيه كثير من «الشهادات والدماء والجراح»، البديل الوحيد عن الذبح والذل والسرقة. لم يتوقف هنا أيضاً محرّر القصير لحظةً ليتأمّل عبثية موقفه الذي بات يحتاج إلى خوض حرب من أجل أن يستطيع خوض أخرى، أو تعاسة الخيارات التي يقدّمها إلى جمهوره، والمحصورة بين قطبي الدماء والذبح...، وهذا كله بعد عقد من النصر. فهذا ليس خطاب إعادة النظر بالخيارات. إنّه خطاب نصر، وإن كانت طعمته مرة. بعد اكتشاف أنّ الحقيقة تغيّب وأن الانتصارات لم تعد تكفي لإعادة إظهارها، جاءت الفقرة الأخيرة لتحاول امتصاص بعض من الامتعاض الداخلي الناتج من تخلي «حزب الله» عن جبروته أمام الخصم الداخلي، أي المحكّ الفعلي للعواطف السياسية. في وجه التململ، قرّر سيد المقاومة «امتلاك» هذه الحكومة، مشدّداً على دور «حزب الله» و «حركة أمل» في «فتح باب هذا الإنجاز الوطني». هنا أيضاً، لم يتوقف للتأمل في سخرية موقفه الداعي إلى التلاقي مع «راعي قادة المحاور» و «العميل المعروف سعره» و «قاضية التسامح مع العملاء». فهذا ليس خطاب اعتراف بواقع لبنان وحدود السياسة فيه. إنّه خطاب تقبّل الواقع من دون التصالح معه. من دخل إلى السياسة على وقع انتصارات لا تحصى، قد يشعر ببعضٍ من اليأس إزاء الوضع الحالي. وفي بعض الحالات، يشكّل اليأس المدخل إلى الواقع وحدوده، وهو ما يترجم لبنانياً بالتسوية. غير أنّه ليس مدخلاً حتمياً نحو خلاصة كهذه، وغالباً ما يشكّل الطريق نحو خيار معاكس، أي الانتحار السياسي. وهو هذا المسار الذي سلكه بعض الشبّان اللبنانيين عندما استبدلوا الانتحار السياسي بالانتحار الفعلي، وقاموا بعمليات انتحارية لمجرّد «النكاية بالعدو» كما جاء في شريط «غزوة السفارة الإيرانية في بيروت». ليكون اليأس مدخلاً إلى الحل، أي ليكون رفضاً للخلاصية باسم الواقع وليس العكس، عليه أن يكون مرفقاً ببعضٍ من الحرج والخجل. لكن سيد المقاومة أكد: «نحن ليس لدينا أي حرج»، وهنا تكمن مشكلته... ومشكلتنا.