النسخة: الورقية - دولي ... وليس أي وزير، بل تحديداً وزير النقل العراقي المسؤول بالطبع، من بين مسؤولياته الجسام، عن حركة مطار بغداد الدولي. وليس أي وزير نقل، بل الأمين العام لمنظمة «بدر» التي أُسست في الأصل كجناح عسكري للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي، قبل أن «تستقل» عنه. ويُنظر إلى هادي العامري كواحد من أركان السلطة القائمة في العراق منذ 2003، بل قيل إنه نقطة توازن فيها لوجوده على تقاطع أكثر من كتلة، ولتاريخه الحافل كمسؤول عسكري وأمني في المنظمة الأساسية التي تحتضنها طهران. لكن الرجـــل حساس جداً، فهو نوى في الفترة الأخيرة عدم الترشح للانتخابات المقبلة (التي حل فيها أولَ فـــي المرة الماضية بمحافظة ديالى) «تكفيراً عن ذنبه» كما قال، لأنه كان علــــى رأس من صوّت لمصلحة البند 38 المتــــعلق بالامتيازات الخاصة بالنواب والـــوزراء، وإعراباً عن ندمه بعدما رفض المـــرجع، السيد السيستاني، استقباله. أما إذا كان التعبير الصحيح في هذه الحالة هو «الندم»، فالله أعلم. ولا يرتكب مهـــدي العامري فاحشة، إذ يتصل بأبيه شاكياً سفر طائرة الـ«ميدل إيســت» اللبنانية مـــن بيــــروت إلى بغـــداد من دونه. فتُحرم الهبوط في المـــطار، وتعوــد أدراجها محمّلة بركابها جميعاً. فهذا غيض من فيض الاستبداد والاستباحة الممارسين من جانب «المسؤولين» في العراق وأفراد عائلاتهم على «مواطنيهم» الذين يجدون أنفسهم أمام واحد من ثلاثة خيارات: الدخول في الركب والتقاط الفتات (وهذا اسمه شبكة الزبائنية)، أو الانسحاق، أو الهرب إلى خارج البلاد لمن يجد إليه سبيلاً. والشاب لم ينتبه إلى أنه عَبَر الحدود. قبله بعض أبناء القذافي تصرفوا في أوروبا كما لو كانوا في أحضان أبيهم. أما أبناء صدام حسين فتفرعنوا محلياً. وابن العامري يقارن نفسه بابن المالكي (أحمد) الذي يشتري الشبكات التلفزيونية ثم الهاتفية، بعد العقارات... والأطرف في حادثة المحروس مهدي هو التبرير: أعمال تنظيف في مطار بغداد، بل إن نجل الوزير لم يكن من المقرر أن يسافر على تلك الطائرة، وفق المستشار الإعلامي لوزارة النقل العراقية الذي، كلما أمعن، شعر بالحاجة لإكساب تصريحه صدقية، فبالغ: «طلبنا من كل الرحلات الجوية الامتناع عن الهبوط في المطار بعد التاسعة صباحاً، ولكن هذه الطائرة وصلت بعد ذلك الوقت. لذا، طلبنا منها أن تعود من حيث أتت»... بينما هبطت في مطار بغداد 30 طائرة وكانت حركة المطار عادية قبل التاسعة وبعدها. وهو لم يحسب حساب أن الفضيحة عبرت الحدود هي الأخرى، وأن المالكي، مضطراً، أو مستغلاً الأمر نكاية بالعامري المنسحب أخيراً من كتلته، يعلن تشكيل لجنة تحقيق ويضع طائرة عراقية لنقل الركاب المساكين مجاناً، وتشكره إدارة الـ «ميدل إيست»... في قصة تصلح لإنتاج مسلسل تلفزيوني رديء. حسناً، اضطررتُ لرواية القصة البائسة كمثل عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه الأمور حال انفلات حبالها. ولا حاجة في هذا الصدد للإشارة أيضاً إلى الشطارة اللبنانية الخبيرة في لفلفة الأمور (حين تُسوّى)، فيعاد «ضبّها» ويختم عليها بشمع ما، في تواطؤ حكيم. الفساد إذاً، لا يتلخص أبداً بكونه عيباً أخلاقياً. هو كذلك طبعاً، ولكن ليس فقط، بل ليس هذا الجانب هو الأهم. واستنكاره كعيب أخلاقي لا يلتقط عصب المسألة. الفساد والاعتباط والاستبداد بالضرورة تعمل معاً، وهي في آن سبب ونتيجة، ما يجعل منها عناصر منظومة سلطوية تحتاج لكي تشتغل إلى مكملاتها الاجتماعية والثقافية والنفسية. وكتلة «بدر» التي يرأسها السيد العامري اقترحت على مجلس النواب والحكومة منذ أشهر حلاً لمسألة الإرهاب: «أن يتم إعدام الإرهابيين من جانب أجهزة الدولة العراقية في مكان التفجير، وبعدد الشهداء الذين سقطوا فيه»، ما يُفترض به ردع الأوائل شفاء لغليل أهالي الضحايا. بهذه العقلية المستعرِضة للدم، نصف البلهاء ونصف العاجزة، يدار العراق. ويحل نظام المحاصصة الطائفية الذي تقوم عليه «العملية السياسية» في القلب من هذه المنظومة، فيصبح كل اعتراض عليها مساساً بهيمنة الطائفة الأقوى، وتهديداً لـ «التوازن المبني» أو في الحقيقة اللاتوازن. فهذه الصيغة مأزومة دائماً، حيث يحاول أطرافها تعديلها باستمرار، فلا توفِّر أي استقرار تعريفاً، وتبقى في سقف «التسوية» في أحسن الأحوال وتعجز عن تحقيق «التوافق». وليس مصادفة، ولا هو بالمعطى المنفصل عن هذه الفوضى العارمة وهذا الابتذال، أن يكون العراق ثالثاً في سلم الدول الأكثر فساداً في العالم، لمرات متتالية آخرها في 2013، وفق منظمة الشفافية العالمية. وليس مصادفة أن معامل الكهرباء التي صُرف عليها 27 بليون دولار منذ 2003، لم تبلغ طاقتها الإنتاجية ألف ميغاواط. ويضيف تقرير المنظمة أنه، وبالمقارنة، وُظف بليون دولار في قطاع الطاقة في منطقة كردستان أمكنها توفير رفع قدرة المولدات إلى ألفي ميغاواط (ما لا يعني غياب الفساد هنا، ولكن بحدود معقولة!). ونقلت جريدة «الإندبندت» البريطانية في تقرير موسع (آذار- مارس 2013) أن هناك مثلاً بليوناً وثلث بليون من الدولارات صُرِفت لعقد كهرباء موقّع مع شركة كندية لا وجود لها («وجودها اسمي»، كما قالت الصحيفة). المياه لم تصلح بعد، وقد صُرِفت منذ 2003 سبعة بلايين دولار لإنشاء شبكة تنقية لمياه بغداد وحدها، من دون أن تبصر النور. وقس على ذلك وأكثر، فالتعليم والصحة والطرقات وكل البنى التحتية منهارة، وكذلك الأمن، بينما يبلغ دخل العراق من النفط مئة بليون دولار سنوياً، وهو يمتلك رابع أكبر احتياط عالمي منه، وفق تقرير للأوبك عام 2011، فيما يعيش ربع الشعب العراقي في حالة من الفقر المدقع، وفق تقرير للأمم المتحدة في 2013. هكذا، يصبح «مفهوماً» أن يقاصص ابن وزير النقل العراقي طائرة تحمل عشرات الركاب، تأخر هو عنها وتجرأت هي على الإقلاع من دونه. فالشاب يريد المحافظة على «مكانته» أو، للدقة، على مكانة أبيه، وعى ذلك أو لم يعِ. وكما يقول صاحب «مجتمع الاستعراض» (ولو هو كان يتكلم عن شيء آخر) فـ «المشهد ليس مجموعة صور، بل علاقة اجتماعية بين الأشخاص...».