قبل نحو عقد من الزمان تقريبا، اعتاد خبراء صندوق النقد الدولي أن يتحدثوا بصورة تحمل بعض الانتقاد لسلوك الاقتصادات الآسيوية الناشئة، بأنها تراكم احتياطات ضخمة من العملات الأجنبية، ما يؤدي إلى رفع أسعار صرف عملاتها في مواجهة غيرها من العملات الدولية. الآن يبدو وضع عديد من العملات الآسيوية محل شك وتساؤل حول قدرتها على مواجهة التحديات التي تلوح في أفق الاقتصاد الدولي. فقد شهد عديد من عملات البلدان الآسيوية خاصة منطقة جنوب شرق آسيا تراجعا ملموسا في قيمتها في الأسابيع الأخيرة، كما شهد اليوان الصيني انخفاضا حادا في مواجهة الدولار ليصل خلال الأسبوع الماضي إلى أدنى مستوى له في ثمانية أعوام أمام نظيره الأمريكي. وأثارت تلك التراجعات مخاوف حقيقية بتعرض بلدان جنوب شرق آسيا والصين، لمزيد من عدم الاستقرار الاقتصادي، الذي يمكن أن يهز تلك المنطقة الحيوية من الاقتصاد العالمي، وما قد يستتبع ذلك من تداعيات على المنظومة الاقتصادية الدولية. وقالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة جيما راسيل أستاذة الاقتصاد الآسيوي: قيمة فوائد الدين واجبة السداد العام المقبل على الشركات والمصارف وحكومات بلدان جنوب شرق آسيا ستزيد بنحو 8 في المائة وستصل إلى 19.7 مليار دولار، وتعرض أسعار صرف العملات الآسيوية لمزيد من الانخفاض يعني ارتفاع قيمة فوائد الدين واجبة السداد مقيمة بالدولار الأمريكي، وهذا بالطبع سيخلق متاعب للميزانيات العامة". ويعتقد بعض الخبراء الاقتصاديين أن الإجراءات التي اتخذتها البلدان الآسيوية أخيرا مثل ماليزيا والصين بفرض مزيد من القيود على إخراج العملة المحلية خارج البلاد، تأتي في إطار جهود السلطات المالية في تلك البلدان للتصدي لانسحاب رؤوس الأموال الأجنبية من الاقتصاد الوطني، لما لذلك من تداعيات على النمو الاقتصادي، وعلى قيمة العملة الوطنية على وجه التحديد. الخبير المصرفي روبرت فيندلي يعتقد أن مثل تلك الإجراءات لن تقف عند حدود الصين وماليزيا، وأنه من المرجح أن تشهد الأسابيع المقبلة زيادة ملموسة في عدد البلدان الآسيوية، التي ستتخذ إجراءات لوقف خروج رؤوس الأموال الأجنبية إلى خارج البلاد. وأضاف خلال حديثه لـ"الاقتصادية": "نلاحظ حاليا أن الدولار الأمريكي يتمتع بقوة في الأسواق الدولية، والسلطات المالية في الصين أو منطقة جنوب شرق آسيا تسعى إلى بناء حائط صد قبل قيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة، وسط توقعات بأن يؤدي ذلك إلى نزوح رؤوس الأموال الأجنبية من الاقتصادات الآسيوية في اتجاه واشنطن". وأوضح قائلا: "منذ بداية العام حتى شهر أكتوبر الماضي خرج من الصين 275 مليار دولار أمريكي في شكل عملات محلية، وذلك مقابل 105 مليارات فقط خلال نفس الفترة من العام الماضي، جزء من تلك الزيادة يعود بالطبع إلى تدهور قيمة العملة الصينية في مواجهة الدولار". ديفيد مايسون الخبير في مجال أسعار صرف العملات يعتبر أن أخطر ما تتعرض له أسعار صرف العملات الآسيوية لا ينحصر في انخفاضها فقط، إنما في امتداد واتساع نطاق تراجع أسعار الصرف الذي طال الجميع بصرف النظر عن درجة التطور الاقتصادي لهذا البلد أو ذاك. وقال مايسون لـ "الاقتصادية": "انخفاض أسعار صرف العملات الآسيوية امتد من الاقتصاد الياباني، حيث انخفض الين بنحو 8 في المائة، وإلى ماليزيا، حيث تراجع الرينجت بنحو 6 في المائة. أما عملتا إندونيسيا وكوريا الجنوبية فخسرتا نحو 4 في المائة من قيمتهما، وفي الفلبين انخفض البيزو إلى أدنى مستوى له منذ اندلاع الأزمة المالية عام 2008، وربما تكون تايلاند هي الأفضل، إذ فقدت عملتها 2 في المائة فقط من قيمتها". وأضاف "ربما ازداد الوضع تدهورا، إذ لم تكن اقتصادات المنطقة تعتمد على الأسواق المحلية في الإقراض، وهذا هو السبب في قيام المصارف المركزية لعديد من البلدان الآسيوية في خفض أسعار الفائدة في مسعى لزيادة الاستهلاك المحلي، ورفع معدلات النمو، وإذا كان انخفاض أسعار النفط وعديد من أسعار السلع الأولية أسهم في كبح جماح التضخم حتى الآن، فإن تغيير تلك الاتجاهات سيؤدي حتما إلى زيادة التضخم، ومن ثم الحد من معدلات النمو". وقد أدى انخفاض أسعار صرف العملات الآسيوية، إلى زيادة المصاعب التي تواجه المصارف المركزية لتلك البلدان، فيما يتعلق بسياسات التيسير الكمي، التي تتبعها لتحفيز الاقتصادات الوطنية على النمو. فمنذ فوز دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأمريكية سحب رجال الأعمال الأجانب نحو 12 مليار دولار من الأسواق الناشئة في آسيا، عن طريق بيع جزء من حصتهم من سندات الخزانة وأسهم البورصات الآسيوية. وقد حد ذلك بشكل ملحوظ من الاستراتيجيات التي كان مخططا لها أن تتبعها الاقتصادات الناشئة في آسيا، إذ لجأت إندونيسيا على سبيل المثال لخفض أسعار الفائدة للمرة السادسة هذا العام. ويخشى عدد من الاقتصاديين أن يؤدي الشعور الذي يسود كثير من الاقتصادات الآسيوية حاليا، بأن التقلبات الراهنة في أسواق العملات، أعنف بكثير من قدرتها على مواجهتها إلى التسرع في اتخاذ إجراءات تؤدي إلى تفاقم الأوضاع، جراء توتر صناع السياسات المالية بسبب التآكل الراهن لجزء كبير من الاحتياطات المالية، التي راكموا فيها لسنين، وتضعضع قيمة العملة المحلية بما يفرضه ذلك من قيود على قدرة المصارف المركزية في مواصلة خفض سعر الفائدة. وقالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة جيما راسيل أستاذة الاقتصاد الآسيوي بالقول: "إذا فشلت السياسات المالية للمصارف المركزية الآسيوية في لجم أسعار الصرف المتراجعة للعملات المحلية، مع ضرورة الإبقاء على سياسة التيسير الكمي لضمان حد أدنى من النمو، فربما لن يكون أمام بعض الاقتصادات مثل الفلبين وماليزيا وإندونيسيا من خيار غير اللجوء لدفع العملات المحلية لمزيد من التراجع والانهيار، لإحداث قفزات ضخمة في مجال الصادرات وخفض الواردات بصورة ملموسة، لاستعادة التوازن المفقود في الميزانيات العامة، لكن خطورة هذا التوجه أنه قد يحقق نجاحات واضحة خلال الفترة الأولى لتبنيه، لكن مع اتساع نطاقه فإنه يمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرب عملات وحرب تجارية في آن واحد، وهذا سيؤدي إلى مزيد من التعقيدات الاقتصادية التي ستتجاوز آسيا في أغلب التقديرات".