عندما تجتمع بداية الفكرة مع نهايتها في مصر تبدأ الفكرة قوية وتنتهي بنفس القوة، ودائماً البدايات هي الشيء الحقيقي الملموس؛ حيث نجد دائماً الانطلاقة التي تشبه الوهج الذي يصحب الرصاصة، ثم نتوقف بعدها لنستغرق في تفاصيل وفرعيات كثيرة، ونتجاهل دائماً أن الشيطان يكمن في التفاصيل -كما قيل- وكأننا نكتفي بالبدايات، ونترك لغيرنا الوصول للنهايات، فكم من أفكار ومشروعات كبيرة شاخت مبكراً، وتهاوت بفعل البيروقراطية الإدارية. نملك جميعاً قدرة على بدء الفعل والانطلاقة القوية، ونمتلك قدرة أكبر على وأد أي فكرة أو تفريغها من مضمونها؛ لتتحول بمرور الوقت -ليس وقتاً طويلاً- لكائن رخوي غير محدد المعالم. والحديث هنا عن الانطلاقة القوية التي تمثلت في صدور قانون رقم 82 لسنة 2006 بشأن إنشاء الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد، تلاه القرار الجمهوري رقم 25 لسنة 2007 بشأن إصدار اللائحة التنفيذية. والهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد بمصر (NAQAAE) هي هيئة مستقلة تتبع رئاسة مجلس الوزراء، ولها شخصية اعتبارية، بغرض تأهيل واعتماد مؤسسات التعليم، سواء قبل الجامعي أو الجامعي أو الأزهري، طبقاً لمعايير الجودة العالمية "وقد وضعت الهيئة معايير مصرية، تمثلت في تمصير ومزج معايير دولية كثيرة؛ لتخرج لنا في النهاية معايير مصرية قابلة للتطبيق". الفكرة برَّاقة وجيدة وقت صدورها وإنشائها، وعُقدت آمال كبيرة عليها، سواء في انتشال مؤسسات التعليم في مصر (قبل جامعي أو جامعي أو أزهري) من عثرتها، أو نفخ الروح من جديد فيها، وإحيائها ووضعها موضعاً صحيحاً بين مؤسسات التعليم ببلدان العالم المختلفة. وتمثلت فكرة تأسيس الهيئة في الرهان على التعليم وأهميته في المرحلة الحالية ومستقبلاً واعتبارها إنفاقاً استثمارياً مؤجل العائد، وأن تقدم البلد أو تأخره تنموياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطوير حقيقي في التعليم. وكما نشأت على ضفاف النيل في مصر حضارة قوية سادت العالم قديماً، ولا تزال آثارها شامخة تشي بقوتها وأصالتها وتفردها على مستوى العالم، فإنها وبالتوازي قد أوجدت نسقاً بيروقراطياً قوياً لا نملك فكاكاً منه حتى اللحظة. فتلك البيروقراطية تملك قدرة كبيرة على قتل الطموح ووأد الأفكار والرؤى التنويرية، وما جرى مع وعلى أفكار كثيرة سابقة سرى بقوة الدفع على الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد بمصر.. فالهيئة لا تزال قائمة، وتعمل بقوتها السابقة، لكنها فقدت بوصلة تحديد الاتجاه، فلم نعد نعرف عنها شيئاً، ولم يعد يرد لها ذكر، كما لا ندري شيئاً عن مخرجاتها من بيانات الاعتماد لمؤسسات التعليم المختلفة، وإن كانت ثمة اعتماد جرى وتم لبعض المؤسسات فالمُنتج والمُخرج النهائي للتعليم بمصر بمختلف قطاعاتها (قبل الجامعي - الجامعي - الأزهري) يدل دلالة قاطعة على حجم الكارثة، وأخيراً سمعنا عن بلدان مجاورة تعيد النظر في قبول شهادات الجامعات المصرية، ومنها ما يرفض الاعتراف بالدرجات العلمية للدراسات العليا لأبنائها، إن حصلوا عليها من جامعات مصرية، فالتأهيل والاعتماد أضحى مجرد فرضيات على الورق، وأصبح الموضوع مجرد تسديد دفاتر، ساد منطق الفهلوة وغابت الرؤية الحقيقية. وأصبح من يُسهم في قياس وتقدير مدى تأهل مؤسسات التعليم للاعتماد هو نفسه محل شك، وبحاجة أشد إلحاحاً للتقييم والتقدير. في مصر هيئة قومية لضمان جودة التعليم، والإنفاق على قطاعات التعليم المختلفة إنفاق ملحوظ لا بأس به في ضوء قدرات وموارد الدولة المادية، ومع هذا في مصر أيضاً لا يوجد مُخرج تعليمي قادر على المنافسة مع بلدان مجاورة كنا نسبقها بسنوات ضوئية. السؤال المنطقي الذي يتردد على الأذهان، بعد سنوات كثيرة على صدور قانون إنشاء الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد ثم لائحته التنفيذية: هل حققت تلك الهيئة الغاية من وجودها وإنشائها؟ وما دلالة ذلك عملياً؟ في مصر تشريعات وقوانين ولوائح لتطوير التعليم وتأهيل واعتماد مؤسسات التعليم المختلفة، لكنها مجرد مسميات وحبر على ورق، وبمرور الوقت يتحول الأمر لإنفاق وهدر للموارد وتسرّب للأموال لقنوات كثيرة دون طائل أو مضمون حقيقي. لا تزال الفكرة صحيحة وصادقة وصادمة: أن رداءة وتدهور التعليم في مصر يرجعان للقائمين على هذه القطاعات، وليس لسبب آخر. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.