على مدى سنوات طويلة ونحن نتحدث في مجالسنا عما أسميناه حينها بـ "المناكفات" القطرية المتواصلة ضد المملكة ودول خليجية أخرى. وكان بعضنا يرى في صبر حكومات تلك الدول حكمة وسعة صدر على تجاوزات شقيقة صغرى ستعود يوماً لا محالة الى كنف بيتها الذي لا بديل لها عنه في ظل عواصف محيطة عاتية وعيون حاسدة متربصة من كل اتجاه.. في حين كان بعضنا الآخر يعتب على ذلك الصبر ويراه مدعاة لمواصلة التمادي والتطاول والإيذاء. ما الذي تغير اليوم، ولماذا نفد صبر السعودية والإمارات والبحرين من الدوحة لدرجة غير مسبوقة وصلت الى سحب - وليس مجرد استدعاء- السفراء؟ دعوني أجيب على ذلك السؤال ولكن عبر الإجابة على الرد القطري عليه وعلى بعض الأصوات "الإخوانية" التي انتقدته، وتمحور ذلك في ترديد ثلاثة أمور هي: أولاً: أن الخلاف يتعلق بشأن خارجي لا علاقة له بدول المجلس، وتحديداً حول مصر والإخوان. ثانياً: أن القرار كان متسرعاً وقاسياً وكان يمكن احتواء الخلاف بهدوء وصمت. ثالثا: أن الأمر يتعلق بسيادة دولة قطر وحقها في ممارسة تلك السيادة. بالنسبة للنقطة الأولى وهي أن الخلاف يتعلق فقط بما يجري في مصر، فان اختزال المشكلة في دعم وعدم دعم جماعة الإخوان الإرهابية هو قول فيه مغالطة مكشوفة لا تنطلي إلا على البسطاء والمخدوعين بدعاوى أن الإخوان هم الإسلام وأن الاسلام لدى الإخوان وحدهم، ناهيك أن مصر تعنينا دون شك، بل هي جزء لا يتجزأ من قضايانا واهتماماتنا. وقول قطر إن القرار ناتج عن خلافات حول قضايا خارج دول المجلس ينم عن تجاهل أو جهل مدقع بالسياسة وتداخل وتشابك قضاياها الداخلية والخارجية.. فعندما تقوم بدعم الحوثيين في اليمن وتغذية التوتر فيه، وعندما تتبنى جماعة الإخوان بأفكارهم العدوانية ليس تجاه مصر وحدها، بل وفي دولة الإمارات الشقيقة حيث جيشت الجماعة عناصر داخلية لقلب نظام الحكم، ودعم رموزهم في السعودية.. وعندما تقوم بصب الزيت اعلامياً على التوترات المذهبية في البحرين بقصد إشعالها لصالح دولة لا تضمر لها -بل للخليج بكامله- سوى الشر وهي إيران.. وعندما توظف المال القطري ضد السعودية في كل مكان بهدف تغيير مواقف أصدقائها وتقوية أعدائها والعمل بخفاء لتشويه سمعتها لدى المنظمات الدولية والحقوقية، وتغدق الأموال على معارضيها في أوروبا وغيرها وتوفر الدعم والمقرات لهم، فان كل ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال تسميته "شأن خارجي عن دول المجلس". بالنسبة للنقطة الثانية وهي القول إن القرار كان متسرعاً وقاسياً وكان بالامكان احتواؤه بهدوء وصمت. فهنا أقول بأن الصبر على المناكفات والاستفزازات القطرية دام لسنوات طويلة كان كل يوم فيها يحمل تصعيداً جديداً خطيراً وتجاوزاً فجاً لقيم الأخوة وخرقاً للاتفاقات الأمنية الموقعة في المجلس، لدرجة لم تعد فيها المسألة مجرد مناكفات واستفزازات، بل أصبحت تهديداً مباشراً لأمن تلك الدول ووحدة أراضيها وأمن وسلامة شعوبها. وقد بذلت جهود مضنية مع الشقيقة قطر على كل المستويات لإقناعها بالتوقف عن التدخل في الشئون الداخلية لدول المجلس بشكل مباشر وغير مباشر، والتوقف عن دعم كل من يعمل على تهديد أمنها واستقرارها من منظمات وأفراد، ومحاولات التأثير السياسي ودعم الإعلام المعادي. وقد أسفرت تلك الجهود على توقيع الشيخ تميم على اتفاق الرياض في نوفمبر 2013، والذي مرت شهور دون الالتزام ببنوده. تلاه اجتماع الكويت في فبراير 2014 ثم اجتماع الرياض في مارس 2014، والتي فشلت جميعها في إقناع قطر باحترام تعهداتها والتوقف عن ممارسات الإضرار بأمن دول المجلس. بعد كل تلك المحاولات كان لزاماً على تلك الدول اتخاذ إجراء أولي حماية لشعوبها ومصالحها، فكان قرار سحب السفراء والذي لا يمكن الزعم بانه كان قاسياً أو متسرعاً، خاصة عندما ننظر حولنا ونرى الحرائق تحيط بنا من كل حدب وصوب مع حرص الجانب القطري على سكب الزيت على تلك النيران وتأجيجها وتلاعبه بقضايا مصيرية تمس أمن تلك الدول بشكل مباشر لم يعد بالإمكان السكوت عنه. أخيراً، وبعد كل تلك الأمور المذكورة أعلاه فان تكرار الرد القطري لعبارة "سيادة دولة قطر" -والتي تحترمها الدول الثلاث دون أدنى شك- لم تعد رداً أو عبارة مقنعة.. فبكل بساطة يمكن القول: كما أن هناك "حرية" مسؤولة للفرد فان هناك أيضا بالمثل "سيادة" مسؤولة للدولة.