إلى «صديق عرعر» والأصدقاء المشابهين، الذين يكتبون دوما، بإلحاح ومحبة وصدق: أعطنا أمثلة. هات من النماذج كي نسعى ونقلّد. إليكم حكاية مصطفى فروخ، رائد فن الرسم في لبنان. يعرّف به نسيبه الدكتور عمر فروخ في تقديم كتابه الزاهي «رحلة إلى بلاد المجد المفقود» (الأندلس) بأن «والده كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه كان حافظا للأخبار والأشعار والقصص والأمثال، حسن التحديث، حاضر النكتة. وكان مبيّضا، يجلو الأواني النحاسية بالقصدير، ولم يكن له محل ثابت، بل كان يدور بصناعته هذه في الأنحاء المختلفة (على قدميه)، وكذلك كانت أمه أميّة لا تحسن قراءة ولا كتابة». في بيت «المبيّض» المتجول، قرر مصطفى فروخ، أوائل القرن الماضي، أن يتجاوز حدود «حي البسطة» الذي كان يومها على حفافي بيروت. أدرك موهبة الرسم في نفسه فحمل «راحة الألوان» وراح يتنقل بين الوجوه يرسمها، ومشاهد الطبيعة يذوقها. من حي المبيضين والفقراء راح يجول على الدور والقصور ويصور أربابها، ولما جمع ما يكفي غادر إلى روما ليدرس الرسم في أهم معاهدها. وبسبب ما اجتهد وما كدّ تخرج مبكرا، لكنه مضى إلى باريس، يتعرف إلى «مشايخ الفن» فيها، وكان هائما بتاريخ الأندلس وجمالات المجد العربي فيه، فأكمل إلى هناك، حيث وضع هذا الكتاب الرقراق، الذي تعكس صفحاته، نفسا رقراقة من حدود بيروت عام 1900. ليس بسهولة وكسل حفر مصطفى فروخ لنفسه تلك المكانة في تاريخ الرسم اللبناني وصار مرجعا من مراجعه.. إذ لا يمكنك أن تكتب تاريخ النهضة في لبنان، من دون أن تتوقف طويلا، عند ابن «المبيّض» الذي بلغ في جولته جبال لبنان، وهو يحمل على ظهره المنفاخ والقصدير، ولست أدري ماذا بعد. فقد كانت كلها حياة شقية. وعندما كنت يافعا كنت أعتقد أن «التبييض» مهنة سعيدة. فقد كنا نتفرج عليهم في القرى، يشعلون النار ويتحلقون حولها، تحمل الناس إليهم الأواني الصدئة وتعود بها لمّاعة، وكانوا دائما باسمين مثل عملهم. لم يكن مصطفى فروخ فنانا عظيما فقط، بل كان إنسانا عظيما. عندما تقرأ كيف رأى الأندلس، ترى كيف رأى نفسه وتراثه، وكيف فهم سلوك كباره وصغاره. هذا الرسام الذي يبرز معالم الوجوه أمامه يبرز أيضا معالم التاريخ خلفه. المنجزون والمبددون.