النسخة: الورقية - سعودي لو سألك أحدهم: أتود أن تسمع خبراً جميلاً أو خبراً مثيراً يجعلك غارقاً في الدهشة أياماً.. أيهما ستختار؟ أظن أن الشريحة الأكبر سناً ووعياً ستختار ذلك الخبر المعقود بالدهشة، إذ سيتيح لها التنظير والتحليل، فضلاً عن الجميل الذي تتمنى معه أمنيات طيبة وكفى. تطالعنا يومياً مئات الأخبار الجميلة والسيئة، لكن يبقى ذلك الخبر المدهش متربعاً بلا منازع على عرش التداول، إذ يحظى بالرد والتعليق، وبالاختلاف والخلاف أيضاً. في القرن الماضي كان لمصر رأي مناهض حول النظام العراقي، فأشعل المصريون الحرب الإعلامية من خلال إذاعتهم «صوت العرب» المصرية التي تعد الصوت العربي المجلجل من المحيط إلى الخليج، وكانت لا تتوقف عن السخرية والاستهزاء بالرئيس العراقي عبدالكريم قاسم وخيانته للعروبة وزجه بالمناضلين الأحرار في غياهب السجون وتعذيبهم. وكثيراً ما ألهب المذيع المصري أحمد سعيد بحماسته وصوته القوي قلوب المصريين والشعوب العربية وحتى العراقيين الذين كان يصلهم صوته في عقر دارهم ويؤلبهم ضد رئيسهم، وهو ما جعل رجال عبدالكريم قاسم يفكرون في انتقام إعلامي يضرب صدقية ذلك الصوت أمام الشعب العراقي، على الأقل، فسرّبوا معلومات لصوت العرب مفادها اعتقال شخصيتين مهمتين في النضال العروبي، الأولى هي المناضلة القومية حسنة ملص، أما الثانية فهو العروبي الكبير عباس بيزة. وأستميح القراء عذراً في ذلك، إذ لم تكن حسنة ملص إلاّ عاهرة شهيرة في بغداد وعباس قواداً، وعندما بدأ أحمد سعيد كعادته في رشق كلماته القوية، مستجلباً النخوة والعروبة لإنقاذ حسنة ملص، وعباس بيزة مردداً بأعلى صوته ومكرراً: «كلنا حسنة ملص» و«كلنا عباس بيزة» كان العراقيون الذي يستمعون إلى بث «صوت العرب»، في ذلك الوقت، ويقفون ضد النظام العراقي يعرفون حقيقة حسنة، وعباس، فغرقوا في دهشة ضاحكة إزاء ذلك الخبر الصادم، مسترجعين كل الأخبار التي كانت تبثها «صوت العرب». منذ 60 عاماً تقريباً كانت تلك «الطقطقة» العراقية درساً منتقماً لكل إعلامي «مدرعم» لا يسأل عن المصدر أو يتحرى الصدقية، فكان نصراً يعرفه الإعلامي العراقي الذي لو صادفتَ أحدهم في محفل، ربما سألك ضاحكاً: «أتعرف حسنة ملص؟». لأحمد سعيد اليوم مليون نسخة ما بين مغرد في «تويتر» وإعلامي بنصف كم في صحيفة مغمورة، وباحث في المشهد، وربما كان لهم جمهور عريض من أولئك الذين يتسقّطون الأخبار المدهشة فيقعون في فخاخ نصبها مفخخين يخدمون أغراضاً محددة أُوجدوا كمنظومة من أجلها. فكان الخبر الصاعق الذي يؤلب - بغض النظر عن مصدره وصدقيته - سيد المشهد، ولربما لو تعرضوا لما تعرض له أحمد سعيد لواصلوا في نسج الكذبة وصنعوا من حسنة وعباس مناضلين، وأن حسنة تابت واتحجبت، وعباساً أطلق لحيته وقصّر ثوبه وارتحل مجاهداً، ولبارك الناس وهللوا. واختفت ملامح القصة الحقيقية وتشابكت الأمور مع صناعة الخبر وأبطاله. تماماً مثلما نسمع ونقرأ عن جهاد النكاح، ومنع المعلمين من ارتداء السروال القصير في المدارس، والأصبع الشافي هو الدواء الكافي، والكثير من الأخبار التي تدهشك بغرابتها وسماجتها. إن صناعة الأخبار تختلف تماماً عن صياغتها لنشرها أو إذاعتهما. إنها مهنة تنطوي على خبث و«طقطقة»، ومصلحة. لذا أقول لنفسي: «في زمن التغريد..الدرعمة فعل غير حميد» و«في زمن الصناعة تَحسّب من البضاعة». abeeralfowzan@hotmail.com