حين سقط جدار برلين عام 1989 كانت أبعاد ذلك الحدث التاريخي الرمزية أكبر مما أدى إليه من نتائج مباشرة، ومنها إعادة توحيد المانيا. بسقوط ذلك الجدار تداعت فكرة النظام الشمولي. هزمت الشيوعية نفسها بنفسها. بل بدا واضحا أن كل نظام سياسي أقيم على أساس العزلة لن يقوى على البقاء طويلا. كان ذلك الجدار رمزا لما كان يجري وراءه. هناك شعب أريد له أن يكون غير مرئي. مجموعة هائلة من العقول والعواطف والأفكار والأخيلة والمشاعر والمغامرات الروحية والأحلام والتجارب الإنسانية وضعت في قفص مغلق من جميع الجهات بصفيح أسود. كان جدار برلين حلا غبيا لمشكلة، لم تفلح الكراهية في تفكيك أسرارها. لذلك وضعت الحرب الباردة العالم كله في مأزق، لم يقفز على هاويته إلا من خلال هدم ذلك الجدار. حين سقط الجدار تغير العالم، لا لأن الشيوعية أعلنت عن إفلاسها حسب، بل وأيضا لأن عدوها كان هو الآخر قد تخلى عن الكثير من منطلقاته النظرية التي أدت إلى نفور دعاة العدالة الاجتماعية منه. لقد أكتشف الشيوعيون بأنفسهم أنهم لم ينجحوا في بناء مجتمع، تسوده روح العدالة، بقدر ما أنشأوا سلطات تفوق بوحشيتها ما يمكن أن ينتجه الخيار الرأسمالي من قسوة على مستوى الفصل بين الطبقات. غير ان البشرية كما يبدو لم تتعلم الدرس جيدا. لقد ذكرنا دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة المقبل أثناء حملته الانتخابية بالغباء الذي انطوت عليه فكرة إقامة جدار برلين حين تحدث عن رغبته في بناء جدار عازل بين بلاده والمكسيك للحيلولة دون استمرار ما اسماه بالغزو البشري القادم من الجنوب. وقد لا يكون بعيدا عن سطحية الفكر السياسي الأميركي ما قامت إسرائيل به حين شيدت جدار الفصل العنصري على حدود الضفة الغربية وما شهدته بغداد أثناء الاحتلال الأميركي من إنشاء لجدران العزل التي أقيمت حول المناطق ذات الأغلبية السنية. التجربتان تنضحان كراهية وتنطويان على رغبة مؤكدة في تحويل فضاء العيش المفتوح إلى سجن مغلق، ينتقل بسببه الإنسان من شعوره الإيجابي بالمشاركة في سبل العيش إلى شعور سلبي بالقطيعة والنبذ والنسيان وصولا إلى تكبيله بشتى صنوف المشاعر العدائية. وكما اتضح من تجربة جدار برلين فإن الجدار لن يكون أصما إلى النهاية. والمشكلات التي يأمل السياسيون الأغبياء حلها مستعينين بالجدار يمكن أن تتفاقم وتشتد وتتعقد وتذهب على مناطق عصية من جهة تمنعها بسبب ذلك الجدار. فلا العرب في الضفة الغربية كفوا عن الحاق الأذى بإسرائيل بسبب ما يتعرضون له من ظلم ولا المناطق السنية في بغداد توقف غليانها، بسبب التهميش والعزل واستلاب الهوية. قد لا يمضي ترامب قدما في مشروع جداره المكسيكي غير أن مجرد طرحه للفكرة يؤكد أن الرجل هو جزء من المنظومة السياسية التي لم تتعلم شيئا من سقوط جدار برلين. اليوم يشرع اللبنانيون في بناء جدار عزل حول مخيم عين الحلوة. وهي فكرة تفتق عنها الخيال السياسي اللبناني الذي عجز طوال السنتين الماضيتين عن العثور على حل لمشكلة النفايات ولأزمة كرسي الرئاسة الذي ظل فارغا إلى أن خضع الجميع صاغرين لإرادة حزب الله. لقد قرر أولئك السياسيون أن ينتصروا من خلال جدار، يظنون أنه سيكون أصما. وهو ظن لا يمكن الثقة به. ذلك لأن فلسطينيي عين الحلوة لن يكفوا عن الحلم بالحرية. سيكون الجدار إن أقيم سببا في تفاقم تلك المشكلة. سيكون ثمن الحرية رهيبا. الكراهية هي ذلك الثمن الذي لا أعتقد أن اللبنانيين في حاجة إلى أن يسددوا قيمته، في ظل انهيار البنية التحتية التي لم تعد تقوى على ابقائهم صامتين في مواجهة غياب الأداء السياسي. الجدار ليس حلا بل مشكلة. فاروق يوسف