هناك شبه إجماع اليوم في البلدان العربيّة والإسلاميّة على وجود أزمة عميقة، وهي أزمة يكاد يعترف بها العالِم والجاهل معًا. الكل يتحسس المشكل، ويدرك آثاره المتمثلة بالأساس في انسداد الرؤية والأفق. ولكن في مقابل ذلك لا نُولي للعلاج الذكاء اللازم والتفكير الضروري، فنحن بصدد أخذ أدوية كيفما اتفق، وكأن أزمتنا الرّاهنة تشبه صداعًا في الرأس. طبعًا كي لا نزرع القتامة بشكل مجاني نشير إلى أن ما هو بصدد القطع من خطوات في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية مع اختلافات واضحة بين بلداننا، هو مهم نوعيًا وكميًا، حتى وإن كان دون المأمول، وكان يمكن أن يكون أفضل بكثير. إن المشكلة الكبرى، تتمثل في أن حتى الخطوات القليلة المهمة التي قُطعت في مجالات التعليم والصحة والتحديث الجزئي غير مهدّدة، وتعاني من أرضية قيميّة ثقافية هشة. لقد رأينا كيف أن الثورات التي عرفناها في السنوات الأخيرة، ونقصد بذلك ثورتي تونس ومصر تحديدًا، رغم استثنائية الحدث ومفاجأته لنا ولكل العالم، فإن نتائجه فيهما تبدو محدودة جدًا وأحيانًا يعترينا الإحباط، والحال أنّه لا يمكن إنكار مثلاً حقيقة أن تونس نجحت في إرساء بعض أسس الديمقراطية دستوريًا على الأقل، وأنّها عرفت انتخابات تشريعية ورئاسية واعدة جدًا على مستوى الشفافية. غير أن كل ذلك غير كافٍ، والأخطر من عدم كفايته هو أنه مهدد بالزوال. يبدو لنا أنه لا معنى حقيقيًا وفعليًا وفاعلاً لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي ما لم ننتبه إلى أن الإصلاح الأولي والثورة التمهيدية الأولى هي الثورة في مجال القيم؛ ذلك أنه عندما تتغير القيم والأفكار، ويتم ضخ رأس المال الرمزي القيمي بقيم جديدة تنتصر لقيمة العمل والعقلنة والحرية والنّقد، واحترام الآخر وقبول الاختلاف بصدر رحب.. ساعتها فقط سيُزهر أي إصلاح يمكن أن نقوم به. لدينا عطب قيمي حقيقي وعميق. صحيح هو عطب مزمن، ولكن من مزايا الثورة التي حصلت في كل من تونس ومصر أنّها عرته وكشفته، فأمسى عطبًا عاريًا خلافًا لما كان عليه. وكمثال دقيق على أهمية الثورة القيمية نشير إلى الرقم الصدمة الذي توصلت إليه نتائج دراسة، أُجريت العام الماضي في تونس، حيث جاء فيها أن التونسي يعمل ثماني دقائق فقط في اليوم. كيف يمكن تحقيق التنمية والتقدم والتنعم بمزايا الديمقراطية والعلاقة بالعمل كقيمة مهمشة وضعيفة ومخجلة؟ أيضًا ما نعيشه اليوم من تجاذبات آيديولوجية صارخة في مجتمعاتنا، تعكسها وسائل الإعلام بشكل أمين، إنّما يدل على وجود مشكل حقيقي وواقعي في مسألة قبول الفكر الآخر وثقافته. وبدل أن نستفيد من الاختلاف الذي هو في حقيقته رحمة ومصدر قوة وإغناء للمجتمعات، فإننا نقوم بإهدار الطاقة والوقت في معارك شرسة مجانية، تكشف حجم العنف الكامن فينا. يجب أن نوجه كل طاقتنا إذا ما أردنا أن يكون لنا دور في العالم إلى إحداث ثورة قيميّة تشمل الرمزي، وتعيد صياغتنا على نحو جديد، يلغي ما علق بنا من شوائب على مدى التاريخ. طبعًا التغيير القيمي الثقافي صعب وبطيء ولا يخضع للضغط على الزر. كما أن للقيم رباطة جأش وتأبى التغيير، وهو ما يفسر استمرارية العادات والتقاليد والسلطة الاجتماعية التي تتمتع بها. ومع ذلك لا سبيل لنا غير التغيير القيمي الثقافي والشروع فيه، خصوصًا أن هذا النوع من التغيير هو شرط ومفتاح التغيير الاقتصادي والسياسي. ولن نحقق تنمية، التي هي أساس التقدم والازدهار وإنتاج الثروة، إلا إذا أقمنا مصالحة ذهنية حقيقية مع قيمة العمل. نفتقد إلى الإخلاص في العمل وإلى بذل الجهد والعطاء، وهو ما يفسر تفوق العرب في إهدار الوقت في الوقت الذي ترجو فيه أمم أخرى أن تتضاعف ساعات اليوم. إن التغيير القيمي الثقافي الرّمزي بات حاجة أكيدة وضرورة للعلاج، والمعروف أن فئة الشباب هي المؤهلة أكثر من الفئات العمريّة الأخرى للاضطلاع بمهمة التغيير القيمي؛ فالشباب يمتاز بالحماسة ويعرف في هذه المرحلة العمريّة البناء الرمزي للهوية في مستوياتها الذاتية والجمعية. وحده الشباب قادر على تأمين التغيير القيمي، لذلك فإن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على الشباب بوصفه الأمل الوحيد لضخ المجتمعات العربية بالحياة والتقدم والطموح. ولعله في هذا السياق من المهم الانتباه إلى أن شبابنا يحتاجون إلى تهيئة خاصة منذ الطفولة كي يتسنى لهم القيام بالتغيير القيمي المنشود. هم يحتاجون منا إلى تنشئة رمزية قيمية جديدة مُفكر فيها. وهي وظيفة مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأوليّة اليوم، ونقصد تحديدًا مؤسستي الأسرة والمدرسة، فهما المعلم الأول للطفل. وعن طريق هاتين المؤسستين الاجتماعيتين يتم نقل ما يسمى في علم الاجتماع التنشئة الاجتماعية، وهي عبارة عن نقل رأس المال الرمزي الثقافي القيمي كي يستطيع الفرد الاندماج في المجتمع. لقد آن الأوان كي تؤدي الأسرة دورها وتعرف دينامية في مستوى التنشئة الرمزية للأطفال، فالأسرة العربية اليوم صحيح أنها على مستوى الشكل قد تغيرت في الغالبية من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النواة، ولكن لم تحصل نفس النقلة على مستوى ثقافة هذه المؤسسة ودورها الذي يجب أن يتم وفق تصور تفاعلي لا حتمي وسلبي.