النسخة: الورقية - سعودي < في تحليل أحداث «الربيع العربي» المتسارعة في الأعوام القليلة الماضية نستطيع ملاحظة هيمنة النماذج التي تختار في تحليلها للأحداث إما التركيز على البعد الخارجي، وإما التركيز على هويات الأطراف المتصارعة، أو إرجاع الأحداث إلى الخيارات والاستراتيجيات التي يتبعها الفاعلون الرئيسون من النخب والجماعات السياسية الكبرى. ما هو غائب دوماً، أو على الأقل متوارٍ ومتخفي، هو البعد الاقتصادي لهذه الأحداث. كثيرة هي الدراسات التي حاولت بحث العلاقة بين الوضع الاقتصادي وتوزيع الثروات وبين التحول الديموقراطي. فالنظرية الكلاسيكية، أي نظرية التحديث تخبرنا أن التنمية الاقتصادية تؤدي إلى زيادة معدل دخل الفرد وزيادة المساواة في الدخل في المجتمع، ومن ثم خلْق طبقة وسطى كبيرة ستعمل كفاعل معتدل يقود في النهاية إلى تحول ديموقراطي. إلا أن هذه النظرية عانت منذ البداية من مشكلات، فهي - مثلاً - لا تستطيع أن تمدنا بتفسير حول أسباب اندلاع أعمال العنف والثورات والحروب الأهلية، فعلى سبيل المثال: لماذا عملية التحول في تونس كانت سلمية في شكل عام، في حين أنها في سورية اتخذت مساراً عنفياً؟ إضافة إلى هذا، فهذه النظرية شبه عمياء في التعامل مع المراحل الانتقالية، ولا تقدم لنا أي تفسير مقنع للخيارات والاستراتيجيات التي تتبناها النخب والحركات والفاعلون السياسيون في المراحل الانتقالية الحساسة، فهي لا تقدم تفسيرات للخيارات والاستراتيجيات التي اختارها كل من الجيش المصري و«الإخوان المسلمون» منذ سقوط مبارك. أخيراً، فهذه النظرية لا تقدم أي تفسير مقنع لاستعصاء الدول النفطية ذات معدلات الدخل العالية والطبقة الوسطى الكبيرة على التحول الديموقراطي. ولئن كانت هذه الأسباب هي التي تدفع المحللين عادة إلى الابتعاد عن توظيف البعد الاقتصادي في تحليلاتهم، فإنها دفعت بآخرين إلى طرح نظريات معدلة تسعى إلى تجاوز هذه المشكلات المتضمنة في نظرية التحديث. من بين هذه النظريات: النظرية التي تقدم بها كارلس بويكس في كتابه «الديموقراطية وإعادة التوزيع». ففي كتابه هذا حاول بويكس بناء نموذج تفسيري بسيط قادر على تجاوز المشكلات الموجودة في نظرية التحديث. يقوم هذا النموذج على تقسيم المجتمع إلى فاعلين أساسيين: النخبة الغنية والفقراء. ويقسم ديناميّات الصراع بينهما على متغيرات بسيطة: الأولى: درجة المساواة في توزيع الدخل. الثانية: طبيعة الثروات الموجودة في هذا البلد، منظوراً لها من حيث مدى قابليتها للتحرك، فالنفط والمعادن والثروة الزراعية - مثلاً لا يمكن نقلها إلى خارج البلاد، بينما الأموال والمصانع أسهل في الانتقال إلى الخارج. وأخيراً توزيع الموارد السياسية (القدرة على القمع، أو درجة التنظيم في المعارضة). فبالنسبة إلى بويكس، تحدُث الديموقراطية إذا كانت درجة المساواة عالية أو قابلية الثروات للتحرك أكثر. فالفرضية الأساسية التي ينطلق منها بويكس أن الديموقراطية تعطي للفقراء صوتاً، وهذا يعني تلقائياً سعيهم إلى فرض ضرائب على الأغنياء من أجل إعادة التوزيع. فإن كانت هناك مساواة في الدخول فالضرائب التي ستُفرض على الأغنياء في الديموقراطية ستكون أقل من كلفة لجوئهم إلى القمع وممانعة الديموقراطية. وكلما كانت طبيعة الثروات قابلة للنقل إلى الخارج قلّتْ إمكانية الفقراء من فرض ضرائب عالية على الأغنياء، إذ إن هؤلاء الأخيرين سيجدون أن كلفة الخروج إلى مكان آخر أقل من دفع الضرائب. هذا النموذج يستطيع - مثلاً - أن يفسر لماذا الدول التي تتمتع بثروات طبيعية لا تكون ديموقراطية على رغم وجود درجة عالية من المساواة في الدخل، بسبب أن طبيعة الثروات غير منتقلة، فتجد النخب الغنية كلفةَ الإقصاء والقمع أقلَّ بكثير من كلفة الضرائب التي ستنبع من الديموقراطية. كما أن هذه النظرية تخبرنا كذلك لماذا يحدث العنف والثورات، فالتفاوت الهائل في الدخل وكون الثروات ذات طبيعة غير متنقلة ووجود مشكلة في المعلومات بين الطبقات حول قدرة كل طرف على النجاح تجعل لجوء الفقراء إلى العنف ولجوء الأغنياء إلى القمع خياراً محتملاً بشدة. على رغم أن نظرية بويكس ذات قدرة تفسيرية هائلة وتعيد الاعتبار للدور الذي يلعبه العامل الاقتصادي في التحولات الديموقراطية، إلا أنها تعاني من مشكلات عدة. فمن جهة تلغي هذا النظرية الدور الذي تلعبه هويات الفاعلين السياسيين على خياراتهم السياسية، فعلى سبيل مثال: لماذا اختلفت الاستراتيجيات والسلوكيات التي اتبعها كل من الفقراء العرب السنة والأكراد والعرب العلويين في سورية اتجاه ما يحدث؟ إن الإجابة التقليدية هنا تسعى عادة إلى تأويل الهُويات باعتبارها قابلة للاختزال إلى عوامل اقتصادية في حين أن هذه المحاولة تفشل عند تفسير حوادث كثيرة مثل اختلاف سلوك الفقراء في الشام. أما المشكلة الأخرى فتنبع من تجاهله دور البعد الدولي الخارجي في الخيارات الاستراتيجية لجميع الفاعلين المحليين.. فهل سيستطيع بشار الأسد - مثلاً - الاستمرار في خيار القمع لولا الدعم الدولي الذي يتوافر له ويقلل له من تكاليفه؟ ولا يقتصر دور العنصر الخارجي على الدعم المادي، بل إنه يلعب دوراً مهماً في المعلومات التي يتداولها الفاعلون المختلفون، فعلى سبيل المثال: هل يمكن تخيّل «الربيع العربي» من دون القنوات العابرة للدولة كقناة «الجزيرة» وقدرتها الفائقة على مواجهة السرديات المحلية وتدعيم مواقف المحرومين من الإعلام المحلي في البلاد التي تمر بمراحل انتقالية؟ ما يجب الالتفات إليه هنا وإعادة النظر إليه بشكل جدي - أيّاً تكن المشكلات الذي يعاني منها هذا النموذج - هو الدور الذي تلعبه الظروف الاقتصادية وتوزعها على الخيارات الاستراتيجية والأحداث الرئيسة التي نعيشها منذ ثلاثة أعوام. * كاتب سعودي.