النسخة: الورقية - دولي تراجعت الأوضاع الاقتصادية والأمنية في لبنان، إلى حالة من التردي والحرج تستدعي معها تعبئة كل الإمكانيات والموارد المتاحة لوقف التدهور من خلال إجراءات استثنائية. اقل هذه الإجراءات توفير حضور المؤسسات الحكومية وتفعيلها قدر الإمكان، من بينها تشكيل حكومة قادرة على التعامل مع هذه الأحداث والتحديات. لأن في ضوء الأخطار الوجودية التي تواجه لبنان يصبح تشكيل حكومة جامعة هو الإجراء العقلاني الوحيد بغض النظر عن التحفظات الموضوعية الكثيرة حولها، لا سيما أن المبرر الأساس لحكومات الوحدة الوطنية عامة، هو مواجهة أخطار وجودية تهدد الكيان وتستدعي من القوى السياسية، في الموالاة والمعارضة، الترفع مرحلياً عن ما قد يفرقهم من مفاهيم وانتماءات ومصالح، والالتقاء لغرض إنقاذ الوطن، السفينة التي تغرق وقد تغرق الجميع معها. في ضوء موضوعية هذه المعطيات، يستغرب التشبث بحقيبة وزارية لهذا الفريق أو ذاك، وجعلها عاملاً معيقاً لتشكيل الوزارة الجامعة، بخاصة عندما تكون الحقيبة موضع الخلاف هي حقيبة الطاقة والموارد المائية. فما الجاذب في هذه الوزارة ذات المهمات الأكثر تأثيراً على نوعية الحياة والتنمية الاقتصادية؟ أين سحر حقائب الخدمات العامة في ضوء عجزها وتدني مستواها، والكهرباء والمياه ليسا استثناء، إلى حد أصبح الشغل الشاغل للحكومة هو تقنين خدماتها بدل تنميتها. كما أن ارتفاع أعداد اللاجئين السوريين خلال العامين الماضيين لم يساعد في تحسين الأوضاع، بل زادها سوءاً من خلال زيادة الطلب على الخدمات العامة ما عجل في تراجعها، بينما استمرار الأزمة السورية يعد بتسريع هذا التراجع. في ضوء هذه المعطيات السلبية، فإن أقل ما يمكن أن يتوقعه المسؤول، هو مزيد من نقمة المواطنين وانتقاداتهم وهذه ليست من عوامل الجذب بل عكسها تماماً. فلا بد إذاً أن يكون مصدر جاذبية هذه الوزارة في مكان آخر. قد يرى بعضهم جاذبيتها، بخاصة الأحزاب الطامحة في تقلدها، في الوعد الكامن في موارد النفط والغاز الطبيعي التي تم اكتشافها وتقويمها في السنوات الأخيرة، ويتوقع أن تساهم عند استخراجها، في دفع عجلة التنمية من خلال توفير الإيرادات المالية للدولة وخلق فرص جديدة للعمل وغيرها من الفوائد. ايجابيات لا بد أن تنسحب على الجهة السياسية التي تتبوأ هذه الوزارة، سواء مادية كانت أم معنوية. لكن ما مدى واقعية المباشرة في تطوير هذه الموارد في ظل الأوضاع الراهنة التي يمر فيها لبنان؟ وهل يعقل توقع العائدات الموعودة من استخراج هذه الموارد؟ إن الموضوعية، فضلاً عن التشبث بمستقبل أفضل لهذا البلد، يستوجبان الإجابة عن السؤال أعلاه بالنفي، وذلك لعوامل لا يجدر تجاهلها. إن الاستثمار في الموارد الهايدروكربونية هو استثمار طويل الأمد يقاس بالعقود من الزمن، فضلاً عن كثافته الرأسمالية العالية ومتطلباته التقنية والمعرفية غير المتاحة محلياً. إنها استثمارات لم يعتد لبنان مثيلاً لها في تاريخه وتتطلب، في ضوء سماتها، توفر معطيات، أولها استقرار أمني وسياسي طويل الأمد يوازي مدى هذه الاستثمارات، وليس استقراراً فصلياً يطمح له اللبنانيون قبل كل موسم اصطياف أو موسم أعياد. بكلام آخر، على لبنان أن يجتاز أولاً مرحلة عدم الاستقرار الأمني الذي يعاني منه حالياً، من خلال معالجة الأسباب الفعلية لهذه الحالة المزمنة. وقد تكون الخطوة الأولى والحاسمة في هذا المضمار الاعتراف بالمحتوى المحلي لهذه الأسباب وبمسؤولية اللبنانيين الأكبر في معالجتها. كما تتطلب ثانياً استقراراً في البيئة التشريعية والتنظيمية توفر الاطمئنان للمستثمرين باستقرار المعطيات المتمثلة بالأنظمة والقوانين والإجراءات الحكومية الداخلة في جدوى البرامج والمشاريع الاستثمارية. وهذا يحتاج إلى تطور جذري في الممارسات السياسية التي أصبح تعطيل المؤسسات وتأجيل الاستحقاقات الدستورية من سماتها. ويذكر في هذا السياق أن التوتر المتنامي في الطائفية والمذهبية والمتمثل في الانكفاء المتلازم للأحزاب السياسية والجمعيات، فضلاً عن ضعف الوعي الوطني في ظل تنوع الانتماءات، أصبح عقبة مستعصية أمام إصلاح الإدارة السياسية والاقتصادية وتطويرها. أما الشرط الأساس الثالث لتحقيق الجدوى الوطنية للاستثمار، فهو توافر الخدمات العامة والتجهيزات الأساسية بمستوى معقول من الكفاءة. حيث أن الوضع الراهن لكثير من هذه الخدمات يرفع كلفة العمل في لبنان ويضعف بالتالي ميزاته التنافسية. إن الشروع في استخراج هذه الموارد في ظل الظروف الراهنة غير المؤاتية، يرفع مستوى أخطار الاستثمار وبالتالي مستوى العائد الذي يتوقعه المستثمرون على استثماراتهم. وهذا بدوره سيخفض الفوائد العائدة على الاقتصاد الوطني. كما أن العجز في مؤسسات الدولة قد يؤدي إلى هدر القسط الأكبر من هذه الموارد التي يعول عليها اللبنانيون لتحسين أوضاعهم المعيشية. لو كان المناخ الاستثماري مؤاتياً، لما تراكم هذا الحجم من الودائع في المصارف اللبنانية. إنها موارد متاحة لا يقف أمام استثمارها إلا غياب الاستقرار والإدارة الاقتصادية والسياسية المطلوبة، بخاصة في ضوء الاحتياط الكبير من القوى العاملة الماهرة سواء المقيمة أو المهاجرة.