النسخة: الورقية - دولي «الإرهاب ليس لبنانياً»، إنها الجملة الأثيرة التي يحلو للكثيرين من المسؤولين اللبنانيين تردادها في أعقاب كل انفجار. «حزب الله» يُرددها ليُبرر قتاله في سورية، وليقول إنه ذهب الى هناك لاستباق وصول التكفيريين الى لبنان، وتيار المستقبل وبيئة مشايخ في محيطه يرددونها سعياً إلى إبعاد الشبهة عن بيئتهم. لكن حال الإنكار هذه، تبدو أمام الوقائع الصلبة التي تؤكد أن فرعاً لبنانياً لـ «القاعدة» قد ولد، أقرب إلى ما يصيبنا في بيروت لحظة وقوع التفجير، وهو غالباً ما يقع في حوالى التاسعة والنصف صباحاً. نشيح بأنظارنا وأسماعنا محاولين تأجيل الحقيقة الثقيلة. القتلى يُصبحون قتلى حين نعرف أنهم قُتلوا. تأجيل استقبال الخبر نصف ساعة، هو تأجيل لحقيقة أن في بلدنا، وليس بعيداً من مكاتبنا ومدارس أولادنا، انتحارياً لبنانياً أقدم على تفجير نفسه بمدنيين لبنانيين أيضاً. صار في لبنان فرع لـ «القاعدة». انه الموعد الرسمي لإعلان هذه الحقيقة. حتى الآن ما كُشِف من أسماء للانتحاريين يؤكد ذلك. ثلاثة لبنانيين وفلسطينيين من مخيمات اللاجئين في لبنان. وثمة شيخ معمّم ومُدرج في لوائح مشايخ دار الفتوى (سراج الدين زريقات) يخرج وراء كل عملية معلناً أسماء المنفّذين والهدف من وراء العملية. ولمزيد من اللبننة، اختار الفرع اللبناني لـ «القاعدة» اسم إمام لبناني لمؤسسته الإعلامية التي يُمهر كل شريط للانتحاريين بختمها، هو الإمام الأوزاعي. ليس كل هذا مجرد صدفة. «القاعدة» تُجيد لغة الرموز والإشارات، وهي على مدى خبراتها في مجال القتل والانتحار، راكمت خبرات في بعث الرسائل وتحميلها دلالات ومعاني. هي تريد أن تقول إنها «لبنانية»، فاختارت شيخاً لبنانياً لرسائلها الإعلامية، وأعطت اسماً لبنانياً لمؤسستها الإعلامية. أرسلت مع قتيبة الصاطم هويته في السيارة المُفخخة لتقول إنه لبناني، وكشفت هوية معين أبو ظهر لتقول هذا أيضاً. وهي نجحت بسرعة في إرساء هوية لبنانية تطبع أعمالها، وفشل المُنكرون، ويفشلون كل يوم. ثم ما أسهل أن تجد «القاعدة» جذراً لبنانياً تركن إليه. فهي أقوى من الوقائع الصلبة، وأقوى من الرواية التاريخية عن التعايش. ما أسهل أن تُسمّي مؤسستها الإعلامية «مؤسسة الإمام الأوزاعي». ننكر عليها هذا الحق، ونقول إن في لبنان تاريخاً من التعايش والاختلاط، ولكنْ، بماذا يفيد ذلك إذا كان جوابها شريطاً مصوراً باسم «الإمام الأوزاعي» يظهر فيه انتحاري لبناني ابن عائلة مختلطة طائفياً. «القاعدة» ابنة الهشاشة، وهنا بالضبط تكمن قوتها. السنّة الأقوياء لا يُنتجون «قاعدة»، سنّة المُدن وسنّة المتن الاجتماعي وسنّة الاقتصاد لا يُنتجون «قاعدة». هي تنشأ في الهامش، وتتفشى فيه، لكن ذلك لا يعنيها بشيء. فـ «الفعالية» التي تسعى اليها لا تحتاج إلى تاريخ ولا إلى مُسكة أو جوهر. الخروج من العدم والتسبب بالعدم: هذا تماماً ما يُخلفه التفجير لحظة وقوعه. إحداث كتلة فارغة من الأوكسيجين تنهال في أعقاب حدوثها كتلة هائلة الوزن من الهواء تُمزق أجساد العابرين. هذه هي «القاعدة»، ولا شيء غير ذلك. إنها الانفجار لحظة حدوثه. هل من شيء أقوى من هذا؟ لهذا السبب يبدو إنكار هذه الحقيقة لعبة نفسية، إضافة إلى وظيفته السياسية. هي لعبة يتولى فيها المُنكر طرد الشيطان المُقيم داخله، ويُشيح بوجهه عن سهولة أن ينمو الشيطان الصغير المقيم في كل لبناني. والقول إن لا «قاعدة» لبنانية ينطوي أيضاً على اعتقاد بأن «القاعدية» مستوى لم يبلغه اللبناني، والحقيقة أن استعادة التاريخ الحديث للبنانيين تؤشر الى أنهم بلغوا هذا المستوى قبل أن تبلغه «القاعدة» نفسها، وحالة الإنكار تمتد هنا لتشمل هذه الحقيقة. والحال ان في لبنان ما هو أكثر سوءاً مما يعتقد المُتشائمون. عملية تفريخ الانتحاريين اللبنانيين بدأت. و «التفريخ» تقنية معتمدة على صعيد الإرهاب، ولـ «القاعدة» خبرة مديدة فيها. العملية الانتحارية وظيفتها القتل الأعمى، لكنّ وظيفتها أيضاً استدراج مزيد من الانتحاريين. لا أحد يُمكن أن يُنكر «الفعالية»، وهو ما يُعطي المترددين قوة الحسم. الانتحاري يستدرج معجبين. لا قيمة للقيم التكفيرية، على ما يزعم «حزب الله»، في عملية التوالد هذه. وفي حال زعم الانتحاري تبنّيها، تبقى قشرة خارجية تُخبئ دوافع غير جوهرية على الإطلاق. والانتحاري كائن نهاري لا يُحب أن يُخبئ وجهه ولا أن يُخفي اسمه، ويتمنى قبل أن يموت بثوانٍ لو أنه يستطيع أن ينجو. وفي حال اللبناني، يُضاف إلى هذه الخصال أنه يرتدي سترة قصيرة الكمّين ولا يُطلق لحية طويلة، ويُشبه في كثير من الأحيان الـ «بادي غاردز» الواقفين أمام الملاهي الليلية. كل ذلك يُرشح لبنان لتصدّر الدول المُنتجة لهؤلاء، فالسرعة في العدوى تُشبه الى حدٍ كبير سرعة اللبنانيين في تبديل الأمزجة، وفي تبني النماذج واستهلاك الأفعال والأفكار. إنها ما تسمّيها وزارة السياحة اللبنانية القدرة التي يتمتع بها اللبناني على التكيف والمرونة. فالانتحار اذا ما احتاج الى «السلفية الجهادية» لكي ينتمي إلى نموذجه في المنطقة، فإن «الرشاقة» اللبنانية يمكن أن تعفيه من هذا الامتحان. «الرشاقة» هنا هي الخفة، وهي الفراغ والعدم. لقد دخل لبنان هذا النفق، وعودة «حزب الله» من سورية وإن كانت شرطاً للشفاء، إنما الدرس يكمن في أن القابلية موجودة، وما قتال «حزب الله» هناك إلا فرصة لكي تظهر. فقد انتحرنا في مراحل سابقة، وكان هؤلاء هم أنفسهم وقود انتحارنا: هوامشنا الكثيرة والقوية والمتينة. هوامشنا النائمة والمنتظرة. المنتحرون هم هؤلاء، ويكادون يكونون نحن كلنا، و «القاعدة» وصلت الى لبنان، بعدما فتح «حزب الله» الحدود، وتوجهت فوراً إليهم. هي تعرفهم واحداً واحداً وتعرف كيف تُوَلِّد انتحارياً من انتحاري. قد يتحقق الحلم ويعود «حزب الله» من سورية، وسينام هؤلاء في ذلك الفراغ الذي وُلدنا فيه جميعاً، ولكن ما إن تلوح فرصة أخرى للموت، حتى يستيقظوا ويشرعوا مجدداً بقتلنا.