النسخة: الورقية - سعودي يحدث الكثير من الجدل مع العديد من الأخوة الكرام حول ما يجري على الساحة، سواء داخل المملكة أم خارجها، وهذا بلا شك شأن الكثير من الناس في منطقتنا. غير أن الذي يلفت نظري منذ أعوام حتى اليوم هو فكر المؤامرة الذي يسيطر على بعض العقول. كنت أتوقع أن هذا الفكر لا يعدو أن يكون موقتاً ومرتبطاً بمرحلة معينة من السن أو الوعي، لكنني كنت مخطئاً. هناك صديق غضب مني، بسبب إعادتي نشر تغريدة تتساءل عن السبب وراء عدم وجود مجاهدين من أبناء أو أقارب بعض الدعاة في المملكة، والمنتمين إلى زمن «الصحوة الإسلامية». تلك الحركة المسيسة التي عصفت بمقدرات الوطن منذ أكثر من ثلاثة عقود، وعطلت تنميته، وأشغلت الكثيرين بمواضيع لا علاقة لمستقبلنا ولا تنميتنا وتمنياتنا بها. الحديث عن الصحوة هذه الأيام بالطبع يختلف عن حديث الأمس عندما كانت هذه الصحوة في عنفوانها عبر الخطب والأشرطة والمطويات، الصحوة اليوم تكشفت أمام الناس وعرف القاصي والداني أننا لم نكن حقيقة بحاجة إليها. ولهذا، فخطاب من تلوّث بفكرها من جيل الثمانينات أصبح اليوم يتجه إلى محاولة البراءة منها، يقول هذا الصديق إن هؤلاء الدعاة براء من ذهاب المجاهدين إلى شتى بقاع الأرض، «دفاعاً» عن المسلمين. جميل، عرفنا أخيراً أن تلك الدعوات في حقيقة الأمر خطرة، ويجب أن تتوقف. لكن هذا الصديق بعد احتدام النقاش يلجأ إلى اتهام الحكومة بأنها هي أصلاً من خلق الصحوة، ويتناسى هداه الله أن سلوك رموزها لا يؤيد ذلك. ما نعرفه عن الصحويين لا سابقاً ولا لاحقاً أنهم لا يملكون أية حماسة نحو وطنهم، بل إن بعضهم أقدم بالفعل على خيانته، وقدم على هذا الوطن دعمه لكيانات وأحزاب أخرى، فكيف تصنع الدولة من يقوم على عدائها؟ لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فزاد صديقي بأنه حتى «القاعدة» تعتبر صناعة أميركية بالتعاون مع حكومتنا. قلت له كيف يمكن أن يكون ذلك وسلاحها موجه أصلاً إلى هاتين الدولتين، حاولت أن أوضح له بأن «القاعدة» لم يكن له وجود إبان فترة الجهاد في أفغانستان، وأنه خرج بعد أعوام من مغادرة الروس وانسحابهم، بدليل أننا لم نسمع به قبل تفجيرات «العليا» بالرياض في ١٩٩٦ بل حتى ما يعرف اليوم بـ«داعش»، وكان في قلوب الصحويين إلى وقت قريب، واليوم لا يتبرؤون منه بل أصبح في نظرهم مؤامرة صليبية إيرانية، سمها ما شئت، وهدفها تشويه سمعة الجهاد، حال من الإنكار لا مثيل لها. الموضوع معين لا ينضب، يأتي أحدهم في نقاشات منفصلة، ويقول: إن الليبراليين في المملكة هم أيضاً صناعة حكومية لمواجهة المد الديني المتشدد، في مناقشات أخرى هناك من يصنف داود الشريان وبرنامجه المتألق «الثامنة» بأنه صناعة حكومية، تقدمها المباحث لإلهاء الشعب، كي تتفرد الحكومة بالفساد، ومن يعلم فلربما أن هناك من يعتقد أن هذه المقالة وكاتبها أيضاً «صناعة حكومية». يا إلهي ما هذه الحكومة العبقرية القادرة على صناعة كل هذه الفئات واللعب بها بإتقان ودقة كأحجار الشطرنج؟ المضحك أن الكثير ممن ينطلقون من هذا التفكير لا يكفون عن نقد الحكومة نفسها في مواضيع السكن والصحة والخدمات، ما يعني ضمناً غياب التخطيط السليم لدى الحكومة. فكيف يستقيم الأمر هنا؟ طبعاً، لا أجد حاجة للعودة إلى أحداث الـ١١ من أيلول (سبتمبر) أو تفجيرات لندن وباريس ونيروبي ودار السلام والرياض وجدة والخبر، واليوم العراق ولبنان ومصر وليبيا والصومال، وقبل الـ11 من سبتمبر محاولة تفجير طائرة فرنسية ترتطم في برج إيفل، وقبلها محاولة فاشلة لإسقاط برج مركز التجارة العالمي، كل هذه الحوادث مؤامرات تمت حياكتها في أروقة الغرب، ووقودها هم شبان المسلمين، أما وعّاظنا ودعاتنا فهم أبرياء، ولم يسجلوا الخطب، ولم يؤلفوا المطويات، ولم يتباكوا عبر الشاشات على «اللي يسوى واللي ما يسواش». مؤامرات غربية غبية عادت على المؤتمرين في واشنطن ولندن بالويل والثبور، فلا نجحت أميركا في أفغانستان، وتكبدت ترليونات الدولارات من الخسائر بين أفغانستان والعراق. ما هذه المؤامرة العجيبة؟ أين هؤلاء الدهاة؟ على أن أم المؤامرات عصفت بي قبل أسبوع عندما سمعت من أحدهم أن ضرب اليابان لميناء «بيرل هاربر» في المحيط الهادي قبيل دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية كان مؤامرة لجر أميركا للحرب. الغالب أنها مدبرة بواسطة فرنسا وبريطانيا، كون هاتين الدولتين هما من استفاد من دخول أميركا لتلك الحرب ودحرها لألمانيا، واليابان حتماً هي «الملعوب» عليها، ودفعت الثمن غالياً، مشكلتي شخصياً أن من يناقشني من هذا المنطلق، ويسمع ردي، ويشاهد ذهولي، قد يراني غبياً جاهلاً لا أفهم شيئاً. ما الذي عليك أن تفعله عزيزي القارئ عندما تواجه حال كهذه؟ قلت لأحدهم قبل أيام: إن الأميركيين لم يعد توجد لديهم أسرار، فضحوا رئيسهم نيكسون في تسجيلات ووترغيت، ومن بعده كلينتون وقضيته مع مونيكا لوينسكي ليست عنا ببعيد، قال إن من فضح كلينتون هم اليهود يا أبا خالد. اليهود! لماذا؟ ماذا فعل بهم كلينتون؟ قال: لأنه بدأ يتحدث عن الضغط على إسرائيل لقبول السلام مع العرب، لذا حتى عندما تحاول تفنيد الفكرة، فستأتيك فكرة أكبر من الأولى، ولو استمر النقاش فقد نصل إلى مؤامرة بدأت خيوطها قبل نزول الأديان، فهذا النوع من البشر لا يمكن أن يتراجع ويذعن، سيستمر في خياله، ولِمَ «لا»؟ فالمؤامرة تعتمد في الأصل على خيال لا حدود له. ولو أردت الإسهاب لاكتشفتم معشر القراء أن الأمير بندر بن سلطان يتآمر أو هو نفسه مؤامرة، ودعمنا لمصر ولبنان مؤامرة، وشركة زين السعودية تتآمر على قتل السنة، وبرنامج خادم الحرمين الشريفين في إلحاق المرأة في سوق العمل مؤامرة، ووزير العمل يتآمر على الدين والوطن والشعب، بل إن بعضهم قد يرى وجود المملكة وقائدها العظيم الموحد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود هو مؤامرة من قوى مجهولة. مشكلة التفكير من منطلق المؤامرات أنها في الواقع تعبر عن تعطيل كامل للتفكير والتأمل وإلغاء صريح للحقائق ومواجهة العيوب، وتهميش للإنجازات التي قد تنجح بها حكومة بلاده أو هذه المؤسسة أو تلك. من يفكر من خلال المؤامرة سيتجه إلى طريقين، إن كانت نتيجة الفعل تصب لمصلحة أجندته، فهي إنجاز وبطولة، وليست مؤامرة، أما إن أتت النتيجة سيئة لتوجهاته و«رؤيته»، بسبب سوء إدارة هذا الفعل وهمجية الأفراد الذين يقومون عليه فهي مؤامرة من الحكومات أو من الشيطان ولا ذنب على الإطلاق لهذا الفاشل حتى إن تسبب بعد ذلك بكوارث ضخمة لا تعد ولا تحصى. * كاتب سعودي. fdeghaither@gmail.com