التقدم والتحضر في هذه المجتمعات لم يأتيا من فراغ بل من شعوب تراعي مسؤولياتها وتحترم عملها وتقدر مصالح غيرها، وكل هذا مفقود في أغلب دولنا العربية. العربيمينة حمدي [نُشرفي2016/11/25، العدد: 10466، ص(21)] لا أجد تعبيرا أكثر بلاغة لتشبيه العاملين في المؤسسات الحكومية والخاصة بتونس وبالعديد من الدول العربية الأخرى، سوى بـ”لصوص الوقت”، فهذه الاستعارة دقيقة تماما في وصف الحال المزري الذي بقي كما هو عليه في الإدارات وموظفيها ممن مازالوا محافظين على العقلية نفسها في التأخير والغياب، وعدم الكفاءة، ناهيك عن اللامبالاة في التعاطي مع المراجعين، وهدر أموالهم ووقتهم ببرودة أعصاب مثيرة للغيظ. وفي أفضل الأحوال لا يكلفون أنفسهم سوى كلمات أصبحت لغة تلوكها جميع الأفواه، من قبيل “ارجع غدا” أو “هذا ليس من اختصاصي” أو “اطلع إلى فلان فوق” أو “إنزل تحت”. كل يوم نصادف في حياتنا أمثلة كثيرة لعدد من الموظفين ممن لا يبدون أي تواضع أو تعاون أو كياسة أو تحضر في التعامل مع المراجعين، وخصوصا أولئك المشبعين بفكرة أن وظيفتهم “مسمار في حائط” ولا أحد يستطيع أن يزيحهم عنها. هذه الفكرة المترسبة في عقولهم، تجعلهم هادئين ولا تؤنبهم ضمائرهم، حتى وإن كانوا مقصرين في أعمالهم، والأدهى من ذلك أن المراجع قد يتعرض للتوبيخ والكلام الجارح، ويمكن أن يصل معهم إلى طريق مسدود، إذا ما واجههم وطالبهم بإنجاز معاملته التي لن تكلفهم سوى بضع دقائق. هذه هي العقلية السائدة في التعامل مع المراجعين، وذاك هو الأسلوب الغالب، وسواء تم انتقادهم أو توجيه اللوم إليهم، فإن ذلك لن يغير في قناعاتهم وتصرفاتهم شيئا، لأن المشكلة تكمن ببساطة في افتقادهم إلى الحس بالمسؤولية، ولا يشعرون بأن ما يقومون به هو واجب عليهم، وليس فرضا أو منة منهم على الآخرين كما يعتقدون. وهؤلاء على الرغم من أنهم يعملون بعكس ما تمليه مصلحة المؤسسات والدوائر، ويهدرون أوقات الناس وأموالهم لا يجدون في الغالب من يعاقبهم أو يوقفهم عند حدهم. للأسف، أغلب المؤسسات في الدول العربية أصبحت تضم عددا كبيرا من الموظفين الذين يخترقون جميع اللوائح، وتتسبب خروقاتهم في إيجاد بيئة عمل متخلفة ومتوترة، وعدائية كذلك، بغض النظر عما يمكن أن يفعله البعض الآخر من الموظفين الأكفاء في محاولة منهم للسيطرة على الوضع وجعل الأمور تسير بأخف الأضرار. أما ادعاءات المرض والمبررات الكاذبة من أجل التغيب عن العمل فحدث ولا حرج، فالكثير من الموظفين يختلقون أسبابا أغرب من الخيال بسبب تكاسلهم وعدم رغبتهم في الذهاب إلى العمل. وقد كشفت دراسة أجرتها الجمعية التونسية لمكافحة الفساد، أن معدل عمل الموظف التونسي لم يعد يتجاوز 8 دقائق في اليوم، أي أنه لا يرتقي إلى المعايير العالمية، وأن أيام عمله لا تتجاوز 105 أيام في السنة، وأن نسبة الغياب داخل الإدارة التونسية ارتفعت بنحو 60 بالمئة. وقدرت الخسائر بسبب الغيابات بحوالي مليون و86 ألف يوم عمل. وفي الحقيقة لا يمكن قياس كفاءة الموظف وجودة العمل بعدد الساعات التي يمكثها في المكتب، بل بالعديد من الأمور الأخرى. ونستطيع أن نلاحظ الاختلاف بشكل لافت للانتباه عندما نزور البلدان الغربية، فتقدير العمل واحترام الوقت والالتزام بالقوانين، مع الكياسة والود في التعاطي مع الزبائن، تعد قيما ثابتة في ثقافة الموظفين بجميع المؤسسات سواء كانت العامة أو الخاصة. ولذلك يمكن القول إن التقدم والتحضر في هذه المجتمعات لم يأتيا من فراغ بل من شعوب تراعي مسؤولياتها وتحترم عملها وتقدر مصالح غيرها، وكل هذا مفقود في أغلب دولنا العربية، للأسف، يؤمن أغلب الناس فيها بمقولة “أنا ومن بعدي الطوفان” إيمانا فطريا، ويطبقونها في مختلف ميادين حياتهم، وهم لا يدركون أنهم بذلك يجعلون من البؤس قدرا محتوما عليهم، ويضرون أوطانهم التي بقيت تزحف خلف الركب الحضاري ولا تلحقه. صحافية تونسية مقيمة في لندن يمينة حمدي :: مقالات أخرى لـ يمينة حمدي لصوص الوقت , 2016/11/25 الأبناء يشبون على أيديولوجيات الآباء ولا يشيبون عليها, 2016/11/22 المرأة السعودية تمزق الصورة النمطية, 2016/11/18 ذكريات الطفولة وتجاربها أثمن ما يورثه الآباء للأبناء, 2016/11/15 من الإشارة يفهم, 2016/11/11 أرشيف الكاتب