< تردُّد إبريل، رائحة الخبز في الفجر، آراء امرأة في الرجال، كتابات أسخيليوس، أول الحب، عشب على حجر، أمهات يقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكريات. ساق الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش تلك التفاصيل، ليثبت في رائعته «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، أن على المرء البحث عن أسباب الأمل، ليشير بعدها إلى: نهاية أيلول، سيدة تترك الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيم يقلد سرباً من الكائنات، هتافات شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوف الطغاة من الأغنيات. كثير هم أولئك الذين يحسنون لعن الظلام، وإدمان الحديث عن تفاصيل الواقع المر، لكنْ قليل منهم من يصنع الأمل، ويبث روح التفاؤل لدى الآخرين. المفردات في زمن الانكسار انحسرت، واقتصرت على تكرار التوصيف، حتى ملّنا اليأس ذاته، والتركيز على مواطن الخبث تجاوز وصف النقد الذاتي والمصارحة إلى كونه بضاعة مفلسين، فشيء من التفاؤل يا قوم. نُسقط الهمم ونُقعد العزائم ونحسب أننا من الذين يحسنون صنعاً، صار كل امرئ حاذقاً في نشر صور القهر وبث مشاهد الهوان الذي تعيشه الأمة، مُذيلة بتعليقات تُصبغ خلفية حياتنا بالسواد. حسناً يا سيدي، نعلم حجم المأساة، فماذا بعد؟ لا شيء، سوى مزيد من التكرار، وتراكم اليأس. مَنْ لمنائر الأمل يشيدها، فالناشئة تذوقوا طعم اليأس في الأرحام وفي حليب الأمهات، لله در امرئ أذن للفجر على أذيال الليل المنهزم! صديقي سيشهر في وجهي سيف العذل، وحُجته هواجس الوهم والتعلق بحبال الهواء وخداع النفس، فحديثنا عن الأمل لا ركوب بحر الأماني، وشتان لو كنت بالفرق عالماً. سمّته الشريعة بالرجاء، والرجاء في الله خير مأمول. هو عندنا عقيدة تلتف عليها حنايا القلب، كلما هممنا باليأس وهمَّ بنا جاءنا البرهان «لا تقنطوا من رحمة الله» فكان كغيث بدر يُذهب عنا وساوس الشيطان وتثبُتَ به الأقدام. الأمل يا صديقي بنيناه على سنن ربانية تقضي بأنْ يعقب العسرَ يسرٌ، فكل يوم هو في شأن، والأيام دُول، وبين عشية وضحاها تقوم حضارات وتندثر أخرى. من قلب الخندق وفي ظل زلزلة القلوب وتربص الأعداء وسطوة البرد والجوع والخوف كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشّر بالفتح المبين. والسلطان نور الدين بن زنكي كان يصنع منبره ليعتليه في الأقصى خطيباً، في وقت كان مسرَى النبي مكبلاً بأغلال الصليبيين. إنها صناعة الأمل. وكل الحادثات وإن تناهت فموصول بها الفرج القريب يا صديقي، بنينا الأمل على سجلات التاريخ، والتاريخ علمنا أننا أمة تمرض ولا تموت، وما نراه اليوم قارعة الدهر لا يضاهي في شدته المحن والأزمات التي ألمَّت بنا على مر القرون، وفي كل مرة تخرج الأمة منها أشد قوة، فالضربة التي لا تقصم الظهر تقويه. فليست محنة العراق على شدتها بالتي تقارب كارثة الاجتياح التتري في عهد الخلافة العباسية، فالمؤرخ ابن الأثير المتوفى في 630هـ علّق على بدايات الهجمات التترية - بعد أن أعرض عنها حيناً استعظاماً لهولها - فقال: «فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها». ومع هذا لم يدرك ابن الأثير أنه بعد ربع قرن من وفاته سيرتكب هولاكو في بغداد أبشع مذبحة عرفتها البشرية. ذكر بعض المؤرخين أن عدد القتلى بلغ مليونين، وامتلأت شوارع بغداد بالجثث، وتعفنت الأشلاء وتلوث الهواء، فانتشر الطاعون ومات منه خلق كثير. ودبّت الهزيمة النفسية في الأمة بأسرها، حتى تناقلت كتب التاريخ أن الرجل من التتار ربما دخل على جمْع من الناس ولا يزال يُعمل القتل فيهم واحداً تلو الآخر، من دون أن يحرك أحدٌ ساكناً من فرط الهلع. لكن الأمة مع ذلك لم تمت، وانكسرت شوكة التتار في عين جالوت، واستردت الأمة عافيتها من جديد. فهكذا المحنة يُشبهها الأديب الرافعي بالبيضة، تُحسب سجناً لما فيها وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضا إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيخرج خلق آخر. وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل. الأمل يا صديقي بنيناه على مشاهدات الواقع وتجارب الدول، فكم من دولة سقطت وأحياها الأمل فانبعثت من جديد؟ بعدما انقطعت صرخات هتلر النازية واستسلمت ألمانيا لقوات الحلفاء لم يكن على أرضها سوى الحطام والشيوخ والنساء والأطفال، إذ حصدت الحرب الشبان، وملايين الرجال أخذوا أسرى إلى معتقلات الحلفاء، أكثر من 90 في المئة من المباني دُمرت. لكن عبارات الأمل سرت كنسائم الليل، وعاد الحلم بأن تعود ألمانيا قوة عظمى من جديد، فشارك الجميع في بناء ألمانيا بجهودهم الذاتية، وعبارة (لا تنتظر حقك، افعل كل ما تستطيع) كانت تزين كل بناية يشيدها الشعب، وفي غضون 30 عاماً حازت ألمانيا على المركز الثالث عالمياً في معدل التنمية، والثاني في نسبة الصادرات. لو كان الأمر بيدي لرصدت جائزة لكل من يظفر بشيء إيجابي في هذه الأمة، ويبثه على أعين الناس، ولكل شاعر يغير إيقاع الشعر الساخط، وتجود قريحته بما يحرك فينا الأمل، ويقيني أن القائل: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا لم يكن يدرك حينها أن ذلك البيت سيكون سلوانا للمتباعدين ومن فرقتهم مذاهب القول. تقول الحكمة: «لا تنظر إلى نصف الكوب الفارغ وانظر إلى نصف الكوب الممتلئ»، لكن صديقي المتشائم سيؤكد أن الكوب جف فيه الماء، لا عليك يا قَنُوط، فقطرات الندى كفيلة بملئه، فقط حرِّك قدميك تجاه الأغصان في البكور، وهذا هو الأمل الذي نعنيه يا رفيق، أمل يدفع للحركة لا للسكون. صناعة الأمل مسؤولية فردية واجتماعية، تستوجب أن تكون أسلوب حياة، من دون التعلل بضغط الواقع وعجز الثقات وسدور الأمين وعزم المريب. ليت حياتنا كعدسات الكاميرا، تقع على همسات ضاحكة على أسرّة المرض، على أنغام التفاؤل تجري على فم بائع الألبان، على تلك التجاعيد التي بعثرتها بسمة عجوز احدودب ظهرها وهي تبدأ صباحها بـ«بسم الله». اليأس سيقتلنا مرات ومرات والواقع كما هو، فلنجرب أن نعيش على أمل يروي حياتنا، يهيئ الأنفس للعمل، فلنترك أنوفنا تشتم رائحة الغد الأفضل، على طريقة يعقوب، إذ وجد في القميص ريحَ يوسف، فلم ينقطع منه أمل اللقاء «عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً». * كاتبة أردنية. ehssanfakih@gmail.com