في أواخر هذا الشهر، سينعقد المؤتمر العام السابع لحركة «فتح» التي بات لها من العمر أكثر من نصف قرن، تبوأت خلاله قيادة الشعب الفلسطيني، لدورها في إطلاق الكفاح المسلح، ولأنها بدت أكثر شبهاً بشعبها، بحكم انفتاحها وتنوّع أفكارها واستقلاليتها، وبحكم موقعها في قيادة المنظمة والسلطة. بيد أن هذه الحركة لم تقم، خلال كل تلك الفترة، بمراجعة الخيارات التي انتهجتها في المقاومة والتسوية في المفاوضة والكفاح المسلح، ولا بما من شأنه تجديد حيوية بناها التنظيمية ودمقرطة علاقاتها الداخلية، كما لم يعد لديها ما تقدمه، على ما يبدو، لتطوير فكرها السياسي. فوق ذلك كله، فإنها لم تقف في أي مؤتمر لنقد أوضاعها وأفكارها وطرق عملها، على رغم كل التراجعات والتحولات والتحديات والإخفاقات التي حصلت. المشكلة أن «فتح»، وغيرها من الفصائل، لم تتعوّد الإقدام على مراجعات كهذه، في أية مرحلة من المراحل، لأن المراجعة النقدية تودي إلى تحديد المسؤوليات، كما تفترض بداهة حالة سياسية تتأسّس على الديموقراطية والتداول والتمثيل، وهو ما تفتقده الحركات الفلسطينية التي تشكلت طبقتها القيادية منذ نصف قرن تقريباً! على ذلك، لن يكون جديداً، ولا مفاجئاً، تحوّل المؤتمر السابع إلى مهرجان احتفائي، تلقى فيه الخطابات الإنشائية والعاطفية التي تشد من عصبية المشاركين والمتعاطفين، من دون أن يكون ثمة نقاش سياسي، يطرح الأسئلة اللازمة. هكذا يمكن القول أن الوظيفة الأساسية للمؤتمر محدّدة بتجديد شرعية الطبقة السياسية المهيمنة على «فتح» والسلطة والمنظمة، وما يرجح ذلك مؤشرات عدة، أهمها: أولاً، أن عدد المشاركين كبير جداً (1350 عضواً)، فإذا افترضنا، مثلاً، أن ثلث المشاركين سيتحدثون، أي 450 شخصاً، ولمدة ثلاث دقائق لكل شخص، فهذا يعني أن المؤتمر سيحتاج يومي عمل بدوام 12 ساعة، أما إذا افترضنا أن عشر المشاركين فقط سيدلون برأيهم أي 135، فعندها ستكون حصة كل فرد عشر دقائق (وطبعاً هذا من دون أن نحسب خطابات الرئيس والضيوف والتقارير والوثائق المطولة). ثانياً، لم تطرح «فتح» وثيقتها السياسية على النقاش العام لمراجعتها ونقدها وإغنائها، وهذه نقطة ضعف كبيرة في حركة تعتبر نفسها قائدة الشعب الفلسطيني وتعبّر عنه، لا سيما أنها ليست حركة حزبية أو أيديولوجية. ثالثاً، يأتي المؤتمر في خضم ضغوط على الرئيس محمود عباس لفرض ترتيبات معينة في البيت الفلسطيني («فتح» والمنظمة والسلطة)، الأمر الذي لقي معارضة واستدعى الاستعجال في عقد هذا المؤتمر. رابعاً، فقدت حركة «فتح»، منذ زمن، روحها كحركة وطنية تعددية ومتنوّعة، أي أنها لم تعد هي ذاتها التي كانت في السبعينات والثمانينات، إذ لا تدور الاستقطابات فيها اليوم حول قضايا فكرية أو سياسية، وإنما حول المكانة والمصالح الشخصية، بعد أن أضحت في مثابة حزب للسلطة. خامساً، يفترض الأخذ في الاعتبار هنا، أن «فتح» ليست تنظيماً بمعنى الكلمة، وهي أقرب الى التجمع، إذ لم تصبح جبهة ولا حزباً، ويفتقد منتسبوها الحياة التنظيمية والحراكات الداخلية الطبيعية، والتنظيم فيها في مثابة جهاز من أجهزتها، بمعنى أن أعضاء «فتح» لا يخضعون كلهم لحياة تنظيمية، وفوق ذلك فهي تبدو حركة الرئيس أو الزعيم، أي حركة مسيّرة، أكثر من كونها حركة وطنية ديموقراطية ممأسسة. سادساً، أكثر من ثلثي أعضاء المؤتمر أتوا بالتعيين من القيادة، كأن القيادة في ذلك هي التي تنتخب ناخبيها! مثلاً، وفي التفاصيل، فإن الأعضاء الـ1350 المشاركين في المؤتمر أتوا وفق التنسيبات الآتية: 22 عضو لجنة مركزية، 86 عضو مجلس ثوري، 51 عضو مجلس استشاري، 151 عسكريين، 138 سفراء وموظفين في السلطة، 193 كفاءات، 57 أعضاء في مفوضيات الحركة، 146 عاملين في المنظمات الشعبية، 66 من الأسرى، 2 معتمدين (يلحظ أن الفئات السابقة بالتعيين)، 198 الأقاليم الشمالية (الضفة)، 112 الأقاليم الجنوبية (غزة)، 128 الأقاليم الخارجية، أي العربية والأجنبية (45 منهم فقط من سورية ولبنان والأردن). هذا يعني أن ثلثي المشاركين في المؤتمر أي 900 عضو، يشكلون القاعدة الضامنة لإعادة تجديد القيادة ذاتها، وهؤلاء لم يأتوا في انتخابات، وحتى لو حذفنا منهم اللجنة المركزية والمجلس الثوري (عدد كبير منهم بالتعيين)، فسيبقى 60 في المئة من أعضاء المؤتمر أتوا بالتعيين. أما بالنسبة الى المنتخبين المفترضين إلى المؤتمر، الذين هم من حصّة الأقاليم التابعة لجهاز التعبئة والتنظيم، مع تحفظنا على طرق الانتخابات ومعرفتنا أن عدداً كبيراً منهم أتى بالتعيين، فعددهم يبلغ 438 عضواً من تنظيم «فتح» في الداخل والخارج، أي ثلث المؤتمر تقريباً. هنا، يجدر لفت الانتباه إلى أن حصة بلدان اللجوء (الأردن ولبنان وسورية) في المؤتمر هي نحو 3 الى 4 في المئة (45 عضواً فقط)، ما يعكس تهمّش مكانة مجتمعات اللاجئين في «فتح»، كانعكاس لتراجع دور الخارج، وتراجع أهمية قضية اللاجئين في سلم الأولويات لمصلحة خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، على رغم دور هذه المجتمعات في نهوض هذه الحركة ومجمل العمل الوطني الفلسطيني. وحقاً، فهذا وضع تقوم فيه قيادة «فتح» بانتخاب ناخبيها، فما معنى، أو ما هي معايير، عضوية أعضاء المجلس الاستشاري والعسكريين (وهم العاملون في أجهزة الأمن) وموظفي السلطة والكفاءات والعاملين في المفوضيات الذين ليست لهم أي صلة بحياة تنظيمية بمعنى الكلمة؟ ما تقدّم يفيد بالاستنتاج أن «فتح» لم تعد الحركة الأكثر شبهاً بشعبها بين مجمل الفصائل، إذ أضحت فصيلاً كغيرها، إذ لم يعد ثمة ما يميزها في الفكر السياسي أو الممارسة أو التنظيم أو الدور النضالي، وهذه حال كل الفصائل. ما يميزها فقط أنها هي الحركة الأكبر، والأكثر استحواذاً على الموارد وعلى القرار الفلسطيني، من خلال قيادتها السلطة والمنظمة. بهذا المعنى باتت «فتح» مجرد فصيل يعيش على تاريخه، وإرث مناضليه الأوائل، وتركة الزعيم الراحل ياسر عرفات، وباتت عاجزة عن تجديد شبابها، أي فكرها وبناها وأهليتها الكفاحية. والمشكلة أن هذا كله لا يؤثّر في «فتح» فقط، إذ هو يؤثر في مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، بخاصة أنه لا يوجد بديل بحكم ترهّل الفصائل الأخرى وتقادمها، والمشكلة أيضاً أن الشعب الفلسطيني في حاجة إلى حركة وطنية تعددية متنوعة ومستقلة مثل «فتح» التي كانت، في بداياتها. لا أتوخّى من هذا الإيجاز لتجربة «فتح» وتحولاتها، تحميل مسؤولية كل ما حصل على عاتق هذه الحركة، فالحركات السياسية، كما هو معلوم، قد تنجح وقد لا تنجح، وربما تنجح جزئياً، وهي فوق ذلك كله تشيخ وتترهّل وتستنزف، كما أنها تستهلك وتتعب وتصبح متقادمة، بأفكارها وصيغها التنظيمية وأشكال عملها، وما يصحّ على غير «فتح»، يصحّ عليها أيضاً. وفي الإطار ذاته، فإننا لا نقصد أن «فتح» انتهت، فهذه الحركة بوضعها الراهن ستستمر، لأسباب ذاتية وموضوعية، على رغم ابتعادها من طبيعتها كحركة تحرر وطني، وكحركة شعبية تعددية، إن بحكم قوة الاستمرارية في طبقتها السياسية، أو بحكم الدوافع الخارجية، الدولية والعربية، التي ما زالت ترى أن ثمة حاجة إليها. كذلك، ليس الغرض القول أنه لم تعد ثمة حاجة الى “فتح»، إذ على العكس من ذلك، فإن أوضاع الساحة الفلسطينية تؤكد أنها في حاجة ماسة الى حركة وطنية تعدّدية، تعيد الاعتبار الى المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، سواء كان اسمها «فتح»، أو غير ذلك. وبديهي، فإن هذا الأمر برسم التاريخ، أو برسم التفاعلات السياسية والمجتمعية. الفكرة هنا، أنه ما زالت هناك مشروعية فلسطينية لحركة سياسية كالتي مثلتها «فتح» في بداياتها، بعد الاستفادة من عِبر التجربة الماضية ودروسها، لكن مع الإدراك بأن هذه المشروعية ليست «شيكاً» على بياض، وإنما هي مشروطة باستنهاض هذه الحركة لأوضاعها، وتغليب طابعها كحركة تحرر وطني على طابعها كسلطة، وتجديد أفكارها السياسية وبناها وعلاقاتها الداخلية وأشكال عملها. قصارى القول، «مع مؤتمر «فتح» أو من دونه، لا تغيير في الساحة الفلسطينيّة، وهذا ما أوضحته في مقالتي، التي عنونتها على هذا النحو في هذه الجريدة (٢٥ تشرين الأول/ أكتوبر). ومع ذلك آمل بأن أكون مخطئاً. * كاتب فلسطيني