ليس من المتوقع أن يتواصل الضجيج العالمي حول سياسة دونالد ترامب الخارجية بسبب تصريح السيناتور جون ماكين بأن سياسته إزاء روسيا «غير مقبولة»، وقد يتحول ذلك الضجيج لدى البعض إلى هستيريا من التفسيرات والتأويلات عن نوايا مبطّنة تتعلق بقضايا مهمة مثل الموقف من الصين والتجارة الحرة وغيرها. وفي يوم 17 نوفمبر، عندما التقى ترامب رئيس وزراء اليابان شينزو آبي، كان من الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة قررت البدء بتنفيذ أجندتها السياسية الخارجية المبنية على أسس عمليّة جادّة. فقد أعلن ترامب لضيفه بكل وضوح أنه يتحتم على اليابان أن تنفق أكثر على المشاريع الدفاعية حتى تشارك في أعباء احتواء التهديدات الصينية بطريقة أفضل. وكان من الملاحظ أنه لم يشتطّ أيضاً في طلباته من آبي، ولم يتجاوز حدود الممكن أو المعقول في الطرح الدبلوماسي. وقد يكون من الأفضل لترامب في أي قمة مقبلة، أن يعرب عن ترحيبه بأي «جهود إضافية» يمكن أن تبذلها اليابان في هذا المجال. وذلك لأن آبي بذل بالفعل الكثير من الجهود لتقوية الموقف الدفاعي لليابان، كما بذل جهوداً أكثر من أجل الإبقاء على التحالف مع الولايات المتحدة. وبهذه الطريقة يمكن للزعيمين وضع الأسس اللازمة لتحسين العلاقات الأميركية- اليابانية. وفيما يتعلق بالصين وسياستها البحرية المثيرة للجدل، يبدو أن خيارات ترامب الأخرى أكثر أهمية بالنسبة له من حصر التركيز على الصين وحدها بشكل مباشر. ويمكن لوقف سياسة التدخل في أفغانستان والعراق (بحيث لا يتم إرسال المزيد من الجنود إلى هناك وإعادة الجنود الموجودين هناك بسرعة إلى أرض الوطن)، وعقد صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول أوكرانيا، أن يسمح كل ذلك بتحرير الإمكانات العسكرية الأميركية بحيث تصبح جاهزة لاحتواء الطموحات الصينية. ومن شأن هذه السياسة أن تؤمّن الرد الأقوى ضد موقف الصين من الجزر المتنازع عليها مع دول أخرى، ومنعها من مواصلة عمليات تسيير دورياتها البحرية حول الجزر الواقعة أقصى جنوب اليابان. وقد حرص فريق البيت الأبيض في إدارة الرئيس أوباما على رفض اقتراحات تقدمت بها قيادة القوات الأميركية في المحيط الهادئ بمنحها «حرية تسيير دوريات بحرية» في بحر الصين الجنوبي على أمل أن يكون الإقناع اللفظي وحده كافياً لدفع الصين لوقف تحركاتها في المنطقة. ويبدو أن هذا الأسلوب في التعامل مع الصين سيتغير الآن. وداخل الحلقات الدبلوماسية الأميركية، قالت تقارير صحفية إن مستشارة الأمن القومي سوزان رايس عبّرت عن اعتقادها بأن بكين كيان «قابل لإعادة التشكيل». ولعلها كانت تعتقد أن الصين مجرد دولة صغيرة وليست دولة كبرى لها تاريخها العريق. وأما ترامب، فلا يبدو أنه من الناس الذين يعيشون على مثل هذه الأوهام، وهو لا يرغب في منع قيادة القوات الأميركية في المحيط الهادي من أداء مهمتها في «الحفاظ على الخطوط البحرية مفتوحة»، وهو تعبير دبلوماسي متقن لرفض أميركا للدعاوى الصينية حول ملكيتها لبعض الشعاب المرجانية والجزر الصخرية والمستنقعات البحرية في بحر الصين الجنوبي. ولو كتب أيضاً لـ«سياسة ترامب الروسية» النجاح الذي نتوقعه لها، فستخفّض من حدة التوتر والاحتقان الذي يسود العالم، وبما يعزز من قدرتنا على إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى أوروبا لدعم حلف «الناتو». ولم ينسَ ترامب الإشارة في مناسبات متكررة إلى أنه سيشدد على مبدأ العدالة في تحمل تبعات وأعباء التحالف الأميركي مع أوروبا، خاصة من حيث مستوى مشاركة الدول الغنية العضو في الحلف في تحمل تلك الأعباء الدفاعية. ويرى بعض المحللين والسياسيين في أوروبا أن سياسة ترامب هذه، يمكن أن تدفع باتجاه تشكيل قوة مسلحة أوروبية موحدة بعد تجاوز المعارضة التي تبديها أطراف متعددة لتحقيق هذا الهدف. ولو حدث هذا، فسيكون بمثابة استجابة تفوق بكثير ما يتوقعه ترامب. وأغلب الظن أنه سيسعى عندئذ إلى زيادة الدعم العسكري لأوروبا فوق نسبة 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة المقررة منذ عدة عقود. وحريّ بنا أن ننتبه إلى أنه ما من رئيس أميركي حديث عهد في الحكم يمكنه أن يتناول القضية الأوروبية بتفاصيل أكثر بمجرد دخوله إلى البيت الأبيض، وخاصة لأن الولايات المتحدة اعتادت تجنب إبداء رأيها صراحة في المؤسسات السياسية الأوروبية القائمة. وفيما يتعلق بالعلاقات مع بعض الدول العربية، يمكن أن يتراءى للمرء أن الأمور قد تسير من «الحالة السيئة جداً» التي تسبب فيها أوباما بتوقيعه على الاتفاق النووي الإيراني، إلى «الحالة الأسوأ» بالنظر لما ردده ترامب عدة مرات من أن «الإسلام الراديكالي» هو فكر عدائي. إلا أن إدارة ترامب لن تبدأ الخوض في مثل هذه النزاعات. وهناك أمر مهم آخر. فمن خلال رغبة أوباما في التوصل إلى اتفاقية نووية مع إيران، تجاهل المخاوف الأمنية لبعض حلفاء أميركا الإقليميين، الذين يواجه تحدياً أمنياً من قبل إيران. وواجه احتجاجات الحلفاء على الصفقة ببرودة وعدم اكتراث. ورأت بعض الدول الإقليمية الحليفة في هذا الإجراء نوعاً من الخيانة، على أساس أن واشنطن نسقت مع أعدائها ضد أصدقائها. وعلى الرغم من أن ترامب لن يرفض بالضرورة الاتفاق مع إيران، إلا أنه انتقده بصوت عالٍ وقال إنه لا يستطيع نقضه بمفرده لأنه اتفاق متعدد الأطراف، ولكنه سيقف وقفة قوية ضد طهران. وقال مسؤولون مقربون من ترامب إنهم لن يقبلوا بأي خروج من جانب الإيرانيين عن نصوص الاتفاقية النووية، ولن يعملوا على رفع العقوبات المفروضة ضد إيران بسبب دعمها للإرهاب، وإذا حاول «الحرس الثوري» إحراج ترامب عن طريق الاستفزازات البحرية مثلما فعل مع إدارة أوباما، فستسارع البحرية الأميركية إلى إغراق الزوارق المعتدية. وستعود العلاقات الأميركية مع الدول الإقليمية الحليفة إلى المستوى الجيد الذي كانت عليه. * مؤرخ ومحلل أميركي في القضايا السياسية والعسكرية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيو سيرفس»