كانت مغامرة حقيقية تلك التي أقدم عليها الشاعر السوري المقيم في لبنان يوسف الخال، في العام 1957، مع عدد من زملائه اللبنانيين والمشرقيين الآخرين، من أمثال أدونيس وجبرا ابراهيم جبرا وشوقي أبو شقرا وأنسي الحاج وخليل حاوي ومحمد الماغوط وغيرهم، عبر إصدار مجلة شعرية ونقدية في بيروت حملت من فورها أسم «شعر». كان ذلك مغامرة حقيقية لكن الزمن كان زمن مغامرات، وكان ايضاً زمن صراعات ايديولوجية. ففي وقت كان التنافس على أشده بين الفكر اليساري (الشيوعي تحديداً) والفكر القومي العربي ممثلاً بالتيار الناصري، لا سيما في الساحة الثقافية في بيروت، منطلقاً منها الى العالم العربي، رأى فكر يميني معين، يضم تيارات جديدة «أميركية النزعة» في الحزب السوري القومي أن الوقت قد حان لدخول السباق. ولعل أبرز أسلحة هذا التيار كان حداثته، وانفتاح وجوهه على ما يحدث حقاً في الشعر والثقافة في الغرب، وقدرته على خوض معركة ايديولوجية «ضد ثقافة البلدان الاشتراكية». والحقيقة أن العمود الفقري لمجلة «شعر» كما صاغها وأصدرها الخال، كان هذين السلاحين. > وفي المجال الشعري في شكل خاص، كان يوسف الخال يدعو الى ما سماه «الذهاب الى ما وراء اللغة» على اعتبار ان القافية التقليدية قد ماتت، والأوزان انتهى أمرها، وكذلك وحدة الشطر داخل قصيدة باتت اليوم، في نظره، هي في حد ذاتها وحدة متكاملة، ناهيك بضرورة «انفتاح الشعر على الحياة وصخبها ومستجداتها». وبدا هذا كله مغرياً لأجيال جديدة من مثقفين وشعراء سرعان ما تلقفوا «شعر» وأمنوا لها نجاحاً تواصل ما يقرب من ثماني سنوات وثلاثة وثلاثين عدداً، تمكنت المجلة خلالها من استقطاب العديد من الأصوات الراسخة في الشعر والثقافة العربيين، ونقل بعض روائع الشعر العالمي الحديث الى القارئ العربي تابعها أولاً بأعداد لا بأس بها. بيد ان هذا القارئ سرعان ما تقلصت أعداده، ما اضطر الخال الى التوقف عن إصدار «شعر» خلال النصف الثاني من العام 1964، معترفاً بأن مجلته «اصطدمت بجدار اللغة» كما بـ «الجدار الحقيقي الفاصل بين الشعر العربي القديم والشعر العربي الحديث». > والحقيقة أن الذين ساروا يومها في «جنازة مجلة شعر» لم يكونوا كثراً، ذلك أن الصراعات كانت قد احتدمت حتى داخل البيت الحداثي الواحد، في زمن كانت المطبوعات المشابهة قد كثرت، وراحت السياسة تتغلب على كل شيء، هي التي كانت تقف على الضد من سياسات «شعر» وصاحبها. بيد أن هذا ما لبث، بعد ثلاث سنوات ونيّف أن أعاد إصدار المجلة، بدعم هذه المرة من دار النهار للنشر، التي كانت مزدهرة، وكان عدد من أقطاب «شعر» القديمة قد باتوا أصحاب سطوة فيها. لكن التجربة الجديدة لم تطل أكثر من ثلاث سنوات، مع أن «شعر» حاولت أن تساير المزاج اليساري و «الوطني» العام بتبنّيها ذلك الشعر الفلسطيني اللافت والكبير الذي بدأ يصل من داخل فلسطين المحتلة. فوضعت خاتمة جديدة لعودة «شعر» في العام 1970، حيث لم تعد ذات وجود، لكن تأثيرها الجمالي على الأقل، ظل حاضراً في الشعر العربي الحديث. > لكن يوسف الخال عاش وكتب ونشط نحو سبعة عشر عاماً أخرى، ليكتب في نهاية الأمر: «وخلاصة القول في سيرة حياتي الى هذا اليوم، هي أني سعيد أن ألقى وجه خالقي وفي يدي اليمنى حركة شعرية غيّرت الى الأفضل مسيرة الشعر العربي، وفي اليد اليسرى ترجمة عربية حديثة لكتاب مقدس أتاحت للألوف المؤلفة من قرائه أن يخترقوا قدر الإمكان في المرحلة الراهنة، جسد اللغة العربية القديمة الى روح مضمونه الحي». بهذه العبارات إذاً، ختم يوسف الخال نصاً ملخصاً لسيرته الذاتية كتبه نحو خمس سنوات قبل رحيله عن عالمنا عام 1987. والحقيقة أن يوسف الخال بهذا التلخيص حدد تماماً، وعلى الأقل، مكانته في حركة الشعر العربي المعاصر. ولئن كان كثيرون قادرين على المساجلة في شأن مكانته كشاعر، فإن ما لا شك فيه هو أن مكانته في الحركة الشعرية، كرائد وناشر ومحرك، أمر يخرج عن السجال، سواء كنا مع يوسف الخال أو خصوماً له. وهو في هذا يكاد يماثل الشاعر الأميركي ازرا باوند في المكانة والدور. وليس الأمر من قبيل الصدفة، إذ إن القواسم المشتركة بين الشاعرين كثيرة، بل أن واحدة من أجمل قصائد يوسف الخال هي واحدة كتبها تحية الى باوند وتنضح بحس «لا سامي» كان من شأنه أن يروق الى مزاج الشاعر الأميركي نصير موسوليني بالتأكيد. > كان يوسف الخال شاعراً بالتأكيد، ولكن من الصعب اليوم إدراجه في خانة كبار الشعراء الذين عرفتهم الحياة الثقافية العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. بيد أن إسهامه، لا سيما في تأسيس مجلة «شعر» والتيار الذي تحلق من حولها والسجال الذي يثيره دائماً، يظل واحداً من أهم الاسهامات، لأن مجلة «شعر» سعت كما أشرنا، الى قلب المفاهيم وتطويع اللغة وخلقت عالماً شعرياً جديداً، قد يكون من الصعب على المرء أن يراه بريئاً الى أبعد الحدود، خصوصاً أن الخال نفسه يذكر أنه تفرغ تماماً للمجلة (وتيارها بالتالي) بعد شهور قليلة من عودته من نيويورك حيث كان في عداد وفد يرأسه شارل مالك، وزير خارجية لبنان «المعادي للعروبة» في ذلك الحين وذو الارتباطات الأميركية المعروفة. ولسوف يظل هذا مأخذاً أساسياً على يوسف الخال وعلى مجلته، لم يمحه اهتمامه الفعلي بتثوير العقل العربي وإبراز أكثر ما في هذا العقل من قدرة على استيعاب الحداثة ودخول العصر، ولا كون مجلته، لاحقاً، من أولى المطبوعات التي أدخلت الشعر الفلسطيني المقاوم، في القاموس الشعري الحديث. وهنا يمكن القول إنه، على رغم كل الشبهات التي أثيرت من حول «شعر» وجماعتها، فإن أي دليل لم يقدم على «عمالة» لها مزعومة تجاه الأميركيين، عكس مجلة «حوار» التي تبين أن ارتباطها بالاستخبارات الأميركية أكدته مؤلفات انغلو ساكسونية عديدة، ويشكل جزءاً من تاريخها. > ولد يوسف الخال في قرية عمار الحصن في سورية، ونزح مع أسرته الى طرابلس في لبنان خلال سنوات يفاعته حيث درس في مدرستها الأميركية قبل أن ينتقل الى الجامعة الأميركية في بيروت، وهي الجامعة التي ما إن تخرج منها حتى أضحى أستاذاً للأدب العربي فيها. وعمل ضمن إطار نشاطات منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، وأقام فترة في ليبيا في إطار ذلك العمل. وخلال أحداث 1958 التي عايشها في بيروت مدرّساً في الجامعة الأميركية، للمرة الثانية، وقف في صف الرئيس كميل شمعون وشارل مالك، وكان قبل ذلك أسس مجلة «شعر»، لكنه لم يتفرغ لها تماماً. أما التفرغ فكان بعدما تمكن من «تأمين تمويل لها» ساعده كذلك على تأسيس دار نشر اهتمت بنشر نصوص الحداثة، ومطبعة. وهذا التوسع المفاجئ هو ما أثار، بالطبع، التكهنات من حول «شعر». > في العام 1964 توقفت المجلة عن الصدور، فيما استمرت في النشاط قاعة عرض تشكيلي أقامها الخال بالتواكب مع نشاط مجلة «شعر». وفي العام 1970 بعدما توقفت المجلة عن الصدور في حلتها الثانية، تفرغ الخال لوضع ترجمته للكتاب المقدس الى لغة عربية معاصرة. > عند رحيله خلّف يوسف الخال، - إضافة الى سمعته المثيرة للسجال بين من جعلوا منه «رائداً كبيراً من رواد الحداثة العربية»، والآخرين الذين بخسوه حقه وأعلنوا أن دوره في الشعر والثقافة لم يكن كبيراً بأي حال من الأحوال -، مجموعات شعرية وكتباً نثرية عدة منها «البئر المهجورة» (1958) و «قصائد في الأربعين» (1960). وصدرت أعماله الشعرية الكاملة للمرة الأولى في العام 1973، كما صدر له «الحداثة في الشعر» (1978) و «رسائل الى دون كيشوت» (1969) و «دفاتر الأيام» (1987). ونشر مسرحيته المبكرة «هيروديا» في العام 1954 وهي شعرية. أما من أبرز ترجماته، اضافة الى «الكتاب المقدس»، فيمكننا أن نذكر «ديوان الشعر الأميركي» و«خواطر عن أميركا» و«ابراهام لنكولن» و«الطريق نحو الغرب» و «النبي» لجبران وغيرها. alariss@alhayat.com