للرحلة العربية حضورها الزاهي في الثقافة العربية، من حيث أشكالها وطرائق عرضها والدراسات المعمّقة عنها، في مواضيعها وأجناسها المتعدّدة ومكوّناتها المتشابكة، وما تحفل به من متخيّلات ومعطيات تُغني التنوّع في الثقافة العربية وآدابها. لكن الباحث في الدراسات الجارية في شأنها يلاحظ تمايز الاهتمام من حيث التركيز على ميادينها الأدبية والمعرفية في شكل عام من دون التعمّق في الجانب التخصصي من جهة والخلفية الأساسية وراء الرحلة وأهدافها البعيدة، مركزين في دراساتهم على آليات الكتابة وأجناسها وخطابات المتخيل فيها. إن التركيز على الأهداف التي حفزت الرحالة العرب والمسلمين للقيام برحلاتهم كمدخل لدراسة هذه الرحلات هو في الوقوف على أهدافها وعوامل التحريض الداخلي والعقائدي عند الرحالة في جهودهم وكتاباتهم، ومن هذا المنطلق فإنني أستطيع التأكيد أنّ اهم دافع لديهم وهم يخطّطون لرحلاتهم هو في معرفة الآخر وتبيان التنوع البشري في ثقافاته وتوجهاته وطرائق عيشه وتقاليده. وهو ما يبرز التكوين الثقافي العربي والإسلامي بالاعتراف بثقافة الاختلاف بين البشر والقبول به كركن من أركان الحياة الإنسانية استناداً إلى قوله تعالى: «ولو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة»، وقوله تعالى أيضاً «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم». وطبيعي أن يكون هدف الرحالة في ما ذهبوا إليه وسجّلوه، تعزيز ثقافة الاختلاف، ولو أنّ هذا التعزيز كان ينطلق في غالبيته من رؤيتهم للواقع المرتبط بمرجعياتهم الفكرية وطرق تعاطيهم مع الحوادث. لقد شكّلت مضامين هذه الرحلات وانتشارها وحرص الفاعلين في وقتها على نشرها والاهتمام بها وتكليف خطّاطين بنسخها في غياب وسائل الطباعة الحالية، مدخلاً لإيجاد طرق تواصل وتقارب وتداول معلومات بين الشعوب عبر تعلّم لغاتهم والتعرّف على معتقداتهم وتقاليدهم كما حدث مع رحلات ابن بطوطة وتكليف سلطان سبتة لخطاط مشهور بنسخها في نسخ عدة مع تزيينها بزخرفات ملائمة لمضمونها، لجعلها أكثر جاذبية للقارئ. لم يكن الرحالة دعاةً للدين الإسلامي في ترحالهم على رغم إيمانهم الإسلامي، بل كانوا دعاة معرفة وثقافة استهلالاً ومدخلاً لتعاون وتبادل، مبني على فهم عملي يذيب حدة الخلاف ونقص المعلومة والتعصّب، من منطلق أنّ الإنسان عدوّ ما يجهل، ويخاف مما لا يعرفه. وإذا كان الإسلام قد دعا إلى طلب العلم من أي منبع أو مدرسة (اطلبوا العلم ولو في الصين) وساحوا في الأرض وهاجروا إليها (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) سورة النساء97. فإن ذلك يؤكد ما وصل إليه إعلان يونيسكو في عام 2001م حين عرّف التنوّع الثقافي بأنّه يمثّل تراثاً مشتركاً للإنسانية، وأنّ ديباجة اعلان يونيسكو للتنوّع الثقافي مبنية ومنسجمة مع ما ذهب اليه المثقفون العرب وفعّلوه في إنتاجهم الثقافي من إبراز السمات الروحية والمادية التي يتّصف بها المجتمع المدروس إضافة إلى فنونهم وآدابهم وطرائق معيشتهم وقيمهم مع الهجرة عند اللزوم والتعايش مع شعوب البلدان التي هاجروا إليها بمودة وتفاهم. ومجاراة انطلاقاً من القاعدة التي ساروا عليها: «إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم». يقول فؤاد قنديل في أدب الرحلة في التراث العربي: «إن الرحلة العربية بلا شطآن، وزادها بلا حدود». تعبيراً عن سعة أبعادها وكبر مضامينها، لكن المؤسف والمفيد في آن معاً، أنّ غالب من حظي بدراسة الرحلات العربية هم من المستشرقين، وفي مقدمهم: أغناطيوس كراتشي كوفيسكي، الذي درس تاريخ الأدب الجغرافي وأضاء عليه إضاءات علمية مفيدة. لكن غالبية الدراسات ركّزت على الطاقة القصصية للأديب العربي إضافة للمعلومات الجغرافية والاجتماعية وهي على رغم أهميتها في علمي الجغرافيا والاجتماع فقد بقيت تتجاهل الأبعاد الفكرية والإنسانية التي هدف إليها الرحالون العرب. لقد قدّمت الرحلة العربية مفهوماً متطوّراً في أهمية التعاون مع الآخر والاعتراف به كمدخل أساسي للتعاون معه إنسانياً وحضارياً، عطاء وتلقياً ومشاركة، فما دوّنوه من ملامح إنسانية واقتصادية ومعمارية وجغرافية قدّمت إضافات علمية وحقّقت تواصلاً معرفياً واسعاً، ومساهمات في البنية الحضارية العالمية، فتحت طريقاً واسعاً للمزيد من المشاركة، على رغم ما شابها من عبارات نابية أحياناً في وصف بعض عادات الشعوب التي كانت غريبة أو متناقضة مع عادات مجتمع الرحالة وتقاليده. غالبية دارسي أدب الرحلات، توقفوا عند دوافعها على النحو التالي: 1- دوافع دينية، 2- دوافع تعليمية، 3- دوافع سياسية، 4- دوافع سياحية وثقافية، 5- دوافع اقتصادية وتجارية، 6- دوافع صحيّة، 7- دوافع أخرى كالهروب واللجوء والبحث عن معيشة أفضل. وقد تكون كل هذه الدوافع والتي أجملها الباحث فؤاد قنديل في أدب الرحلات، واردة مع اختلافات في الشرح والتحليل، لكن الأمر المهم الذي تسلّح به الرحالة هو في تكوينه التربوي المستند إلى عقيدته في أهمية التواصل مع الآخر، في المجتمعات البشرية المتنوّعة، وهو ما أشار اليها صلاح الشامي في كتابه «الرحلة عين الجغرافية المُبْصِرة»، حين قال: إنّ الرحلة رسّخت كل العوامل والمفاهيم التي بنيت عليها مسألة وحدة البشرية على الأرض، بل لقد فجّرت في الإنسان استشعار المصالح المشتركة التي وثّقت عُرى هذه الوحدة على الأرض، ومن غير الرحلة ينفرط عقد الوحدة البشرية وتتضرّر حركة الحياة ومصيرها المشترك. وهو ما يؤكد ما ذهبت إليه، متوقفة عند دوافع تربوية عقيدية عند الرحالة العرب في أهمية التعرف على الآخر ومشاركته، خلافاً لما يحاول المغرضون الجهلة من إلصاقه بالعرب من غرور وتعصّب ومفاخرة. لقد قدّم الرحّالة العرب من ابن فضلان وابن جبير والبيروني وابن حوقل والمقدسي وابن منقذ وابن بطوطة والإدريسي وياقوت الحموي وابن خلدون وغيرهم الكثير، وتحمّلوا مشقة السفر وقساوة الغربة، واختلاف اللغات والعادات، فرسّخوا التوجه العربي في الدعوة إلى التعارف والتعاون وفتح آفاق التواصل البشري بطابعه الإنساني الراقي، من منطلق ثقتهم وقدرتهم على تحمّل دورهم الحضاري بعيداًَ من الهيمنة المطروحة تحت شعار العولمة كما يحاول أصحاب الشركات الاقتصادية الكبيرة، التي ستؤدي في حال نجاحها إلى إلغاء التعددية الثقافية وإبداعاتها المتنوعة بتنوّع مصادرها، وهو ما يتناقض مع مفهوم التنوّع الثقافي وفق ما أعلنته يونيسكو في أن التنوّع الثقافي يمثّل تراثاً مشتركاً للإنسانية مع أهمية الحوار بين الثقافات، من منطلق أن الثقافة تشمل إلى جانب الفنون والآداب، طرائق الحياة وأساليب العيش ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات، وهو ما ركّز عليه الرحالة العرب ضمن خلفيّتهم الثقافية الموسوعية وعقيدتهم المنفتحة تقرّباً وتواصلاً مع الآخر.