دأبت المملكة العربية السعودية على التواصل مع معظم المثقفين العرب المعتدلين، ويظهر ذلك في حرص وزارة الحرس الوطني ووزارة الثقافة والإعلام على دعوة الكثير منهم في مناسبات عدة، مثل مهرجان الجنادرية، وموسم الحج، ومعرض الكتاب، وبعض المناسبات الأخرى.. لكن للأسف - ما إن تستجد أحداث أو تنشأ بعض الظروف حتى يظهر علينا نفر من هؤلاء المثقفين وقد سقطت الأقنعة عن وجوههم، مكشرين عن أنيابهم فجأة وبدون مقدمات. وما يدعو للغرابة هو التلوُّن السريع الطارئ، وهو ما يشي بأن أحاسيس هذه الفئة من البشر هي الأخرى طارئة، وليست أصيلة. ومن أشهر الأسماء في هذا المقام الإعلامي البريطاني الجنسية محمد الهاشمي الحامدي، مالك قناة المستقلة الفضائية؛ فهذا الرجل - ورغم أنه بدأ حياته صحفياً في جريدة الشرق الأوسط وضيفاً على المملكة في مناسبات عدة، كان آخرها تنظيم رحلة خاصة له ولطاقم قناته لزيارة المدينة المنورة، امتدت لقرابة الشهر، وسُخّرت له كل الإمكانات التي تمكّنه من إنجاز مهمته، والخروج بما يشبه الفيلم الوثائقي؛ ليبثه عبر قناته على مدى أسابيع - كنا نكنّ له الاحترام، وفجأة خرج علينا الرجل منتقداً احترام المملكة لقرار شعب مصر حين خرج بالملايين مطالباً بتنحية الرئيس مرسي نتيجة وقوعه في أخطاء جسيمة، كادت توقع مصر في حرب أهلية، لا يعلم مداها إلا الله؛ ولذلك فإن السعودية احترمت خيار الشعب المصري ليس إلا، إلا أن الهاشمي اتخذ مما حدث في مصر مادة دسمة، سخّر لها معظم برامجه للنيل من الجيش المصري ومن القيادة المصرية الجديدة، ونال السعودية من حالة الهيجان هذه النصيب الأكبر، بدءًا من تسمية ما حدث في مصر انقلاباً على الشرعية، وانتهاءً باتهام السعودية بمساندة الانقلاب. ولكم أن تتخيلوا أن الهاشمي، وعلى مدى أشهر، تبنى شخصياً، وبشكل يومي، برنامجاً يحرض فيه الشارع المصري على الخروج والتظاهر والاعتصام والعصيان المدني، ويكيل كل الألفاظ غير اللائقة لقادة الجيش المصري، ومن ثم يفتح خطوط البرنامج التحريضي للمتصلين. ولكم أن تتصورا كم الشتائم التي توجَّه عبر البرنامج، وكأن الهاشمي لا يسمعها، وبمجرد أن يتصل مشاهد منتقداً ما يسمعه ويشاهده من مهاترات وأراجيف يبدأ الهاشمي بطرح الأسئلة التي من شأنها تشتيت ذهن المتصل. وحسب الاتفاق بينه وبين المخرج، وأثناء حديث الهاشمي، يختفي صوت المتصل، ويستمر الهاشمي في الحديث إلى أن ينتقل بكل برود للمتصل التالي، وهكذا دواليك. وما يحزن في الأمر أن كل العاملين في هذه القناة يؤدون الدور نفسه، ولو اختلفت أسماء البرامج التي يقدمونها. فالقناة بمن فيها تحولت إلى بوق، يخدم فكرة واحدة، هي ما يريده الهاشمي، في الوقت الذي يتغنى فيه الهاشمي بالديمقراطية وبحرية الرأي التي ينعم بها في لندن، وها هو يسيطر برأيه بشكل سلطوي على كل من يعمل في القناة؛ فيتبنى وجهة نظره، وإلا فمصيره مغادرتها، وهذا ما حدث مع الشيخ والمحلل السياسي ورجل الأعمال الشهير أشرف السعد. وقد كان برنامج اللقاء اليومي للسعد من أشهر البرامج وأقواها على شاشة المستقلة رغم أن مقدمه لا يملك من مقومات المذيع، فضلاً عن المحاوِر، شيئاً، ولكن حضور وهيبة الشيخ أشرف تلافيا هفوات المذيع. وقد كان واضحاً أن البرنامج يدافع بقوة عن سياسة الإخوان في مصر، وكان في الوقت الذي كان دور الشيخ أشرف فيه تحليل الموقف السياسي في مصر، ما له وما عليه. وفجأة توقف البرنامج بعد يوم واحد من عزل الرئيس مرسي، والسبب واضح، هو أن الهاشمي قرر أن يتفرغ بنفسه للدفاع عن الإخوان، فلا طاقة له ولا حمل أن يواجه حجج وبراهين الشيخ أشرف السعد، فالقرار إذن أن يقصيه تماماً؛ فهو لا قِبل له بالسعد. وعلى الفور، تصدر الهاشمي واجهة المستقلة في خطاب تحريضي مقيت ضد الجيش المصري، وبشكل معلن. والمستغرب من الهاشمي ثورته العارمة ومحاولته الزج باسم السعودية، وكأنها وراء ما حدث، والعالم أجمع شاهد ملايين المصريين يخرجون للتنديد بحكم مرسي، وأنه صنيعة الإخوان لا أكثر، في حين يصر الهاشمي على أن ما حدث وما شاهده العالم هو فوتوشوب، وعلى المعتصمين في الميادين التشبث بمواقفهم وإعلان العصيان المدني، وغير ذلك من وسائل التحريض المسجلة بالصوت والصورة. وبعد أن أعياه الصراخ، وإمعاناً في التيه، خصص حلقة بعنوان مفاده (هل تقوم السعودية بالتدخل بين السيسي ومرسي)؟ في محاولة للزج باسم السعودية بطريقة رخيصة. وقد حاولت التواصل مع الهاشمي لعمل مناظرة على الهواء، ولم يتجاوب، واستمر في حملته المسعورة ضد السعودية، وقد طالبته - وهو المتغني بحرية وعدالة الغرب، ويدين لله بالدعوة الشهيرة لملكة بريطانيا بأن يديم الله ظلها - وأجدد طلبي له بأن يخصص سلسلة حلقات لمناقشة الوعد المشؤوم وعد بلفور الذي بموجبه تشكل الكيان الصهيوني البغيض إسرائيل، واحتل بيت المقدس، وما زال جاثماً على صدور المسلمين منذ ستين سنة، وأن يتبنى حملة دعم الشعب الفلسطيني في ثورته وانتفاضته ضد هذا الاحتلال، بالكيفية التي يدير بها حملته الشعواء ضد الجيش المصري والسعودية، لكنه الخوف والخنوع للقوة، فقد خصص مقابلة للمتحدث الرسمي باسم الخارجية البريطاني، ولم يتجرأ أن يطرح عليه الأسئلة التي تدور في رأس كل مسلم عن سياسة بريطانيا العدائية تجاه العرب والمسلمين في فلسطين والوضع المزري للمخيمات، مكتفياً بالإشادة ببريطانيا. وأخيراً، لن يكون الهاشمي الأخير في سلسلة الحاقدين على بلاد الحرمين، لكن علينا أن نكون على وعي وحذر، وقادرين على التمييز بين من يحبنا وبين من يكيد لنا. ولن تكون المستقلة هي الوحيدة التي تمارس هذا الدور الرخيص، فلي وقفة مقبلة مع الجزيرة وأخواتها بإذن الله.