×
محافظة المنطقة الشرقية

هل الشعر العربي بخير؟ بقلم: محمد ناصر المولهي

صورة الخبر

(1) كنت قد وصلت لما سمَّيته "التورط العاطفي مع الواقع".. رأس ممتلئ بالأخبار وتفاصيلها الدقيقة، نفسٌ مرهقة بندوبها.. طنين الاحتمالات السيئة لا يتركني، والنفس تشيخ بالخوف والعجز.. فليس ثمة حركة، سكون في المكان كمن ينتظر حتفه، موات روحه وما تبقى من مقاومته. كان السفر فرصة هروب، التقاط للأنفاس ليس أكثر، ربما، وأقول ربما عندما أبتعد عن مركز الأحداث تصبح لدي القدرة على استعادة نفسي، توازن عقلي، ذاكرتي التي شعرت بها تتسرب من بين يدىّ كماءٍ منجرف لا أستطيع القبض عليه.. فلم يعد هناك خيال آمن يمكنني حتى الاحتماء به، كل الصور توارت خلف الرابع عشر من أغسطس.. كلها.. وشعرت للحظة أني اقتطعت من حياتي كاملة، وحُبست في كهف الملحمة والمظلومية. هروب مؤقت، التأقيت مهم جداً، مراوغة للنفس لتقبل بخيارك، أو أنك بالفعل أضعف من الهروب الدائم.. سفر مشروط بالعودة.. يا لسذاجة! وأخبركم، عندما تسافر بنية العودة تكون كسائح مرتحل، بيت مؤقت، أصدقاء مؤقتون، مشاعر مؤقتة، حتى بلد إقامتك الجديد تراه بعين ضيفٍ عابر لن يلبث حتى يغادره، تمتن لحسن ضيافته أو تحنق لسوئه.. ليس أكثر! لذا لم أكن أجد إجابة عن سؤال: كيف وجدتِ مكانك الجديد.. أدور حول السؤال ولا أجيب.. ليس بمكاني أصلاً! (2) المسافات مُربكة، على قدر ما تبتعد ترتبك، تشوّش أفكارك ولا تعرف من أنت وماذا تريد من وطنك.. في البداية ومع الغضب الطازج كنت أظن أني لا أريد سوى أحبائي، أهلي وأصدقائي. وأن الوجود بأمان معهم كافٍ جداً لأتجاوز غربة المكان ووحشته.. أُنس أصواتهم، ودفء الحضور بينهم هو الوطن الحقيقي. مع الوقت، وبينما ينضج غضبك على مهل، تدرك أن الوطن جغرافيا وتاريخ أيضاً، وأنك غير منفصل عنه، أماكنك التي اعتدتها، الشوارع التي حفظتها وتستطيع وصفها لغريب يسأل، ذكرياتك فيها، تاريخك بمعنى آخر.. هنا كانت فرحتي الأولى، وهنا كانت أولى خيباتي.. تشابُك معقَّد بين فسيفساء أيامنا الصغيرة وتاريخ البلاد العريض الممتدّ في جغرافيتها الواسعة.. التحرير جغرافيا وتاريخ.. رابعة جغرافيا وتاريخ.. دفتا ميزان يضبطان وجودك ويرسخان قدميك في أرضك.. بدونهما أنت غصن عارٍ مقتطع من شجرةٍ هي الأخرى مقتلعة من جذورها.. فكيف لك أن تهنأ بوجود مستقر آمن في أي بقعة على وجه الأرض! تدرك ذلك، فيزداد غضبك، وتعود تسأل: أي لعنة أصابتنا كلما قسى الوطن ارتبطنا به أكثر.. غضباً وحباً.. فالغضب أحياناً علامة المحبين! ويجيبك بيت شعرٍ.. إنّ للأوطان سراً ليس يعرفه أحد! (3) حياة مؤجلة.. هو الوصف الأنسب لحالة الانتظار المحتملة التي كنت أحياها.. تحاوطك نصائح صادقة بأن تعتاد الأمر الواقع، وألا تُذهب عمرك في التأجيل.. وأهرب أنا من هذا كله إلى نقطة ارتكاز ثابتة في الخيال.. الطائرة تهبط في مدرج مطار القاهرة.. وما بعد ذلك من صور الحياة.. أستعيد كل ما تركته.. الدهشة والفرحة والحنين غير المبرر.. والأهم.. أتحلل من ذنب الخذلان الذي يحاصرني ويُمرِّر كلَّ حلوٍ في الحياة.. ما اكتشفته أني هربت من واقع الوطن إلى خيال العودة إليه.. يا ربِّ إلى أين نذهب! ثمّ، شيئاً فشيئاً تعتاد.. نعم، يفرض الواقع هيمنته على الخيال ويبسط سلطانه على الانتظار.. وتفكر أكثر في بيتٍ مستقر وعلاقات دائمة.. تمسك نفسك أحياناً متلبساً بمحاولة تخطيط مستقبلي محكم، تعيش حياة تشبه القديمة، وتجتهد في غرس جذرك في أرضك الجديدة؛ لكن ثغرة ما بداخلك تتسع، تبتلع قوتك ومعافرتك.. تلحظ الهشاشة التي أصابتك، الحزن النابت في ثنايا أفكارك.. شيء يشبه اليُتم.. فقدان الظهير.. فكل البيوت لا تسعك إن ضنَّ عليك بيتك بالمأوى الكريم! الآن، وأنا أكتب تلك الكلمات أفكر أكثر في الموت.. يبدو رجاءً سخيفاً يشبه أمنية عجوز ستيني.. لكنه يملؤني تماماً.. أن أموت هناك.. بجوار قبر جدّي وجدتي.. ألا أصحبَ وحشةَ غربتي في قبري! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.