انتهت عدة جولات من مفاوضات سد النهضة الإثيوبي العظيم، ذلك الصرح الذي أجج الصراع في المنطقة ما بين مؤيد ومعارض له، جولات تغيرت فيها المفاهيم ما بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، وانتهى عهد السيطرة على هذا الصرح بما يسمى الحق التاريخي الذي انتهى مع نهاية الهيمنة على مجرى هو من حق الجميع، الآن الكل سيأخذ نصيبه حتى لو كانت قطرة ماء واحدة. على الجميع أن يعي أن النيل ومياهه للجميع، وليس هنالك ما يسمى الحق التاريخي والاتفاقيات البالية التي استعمرت الناس في ظل العهود الاستعمارية السابقة فقد ولَّت وولَّى معها كل الاتفاقيات التي سخرت النيل لمصر تحت مسمى الحق التاريخي، الذي أخذته مصر بصفتها دولة تحت الاستعمار البريطاني، والذي كان يرسخ لحكمه في تلك المنطقة، وليس من أجل مصر. الآن إثيوبيا تواصل سد النهضة الإثيوبي العظيم دون توقف، على الرغم من التمويل الضعيف، ولكن الشعب وقف إلى جانب الحكومة في هذه الملحمة الكبيرة التي ستقدم له طاقة رخيصة جداً، وقدم الغالي والرخيص من أجل دعم السد عبر مختلف السبل. الآن على مصر ليس مواجهة إثيوبيا وحدها، بل هنالك دول أخرى خطت خطو إثيوبيا في إقامة سدود كبرى مثل أوغندا وحتى دولة جنوب السودان الوليدة، التي تعاني عدم الاستقرار، فإنها في حال استقرت، فإن الجنوب السوداني سوف يعمل على إنشاء سدود على روافد النيل، وخصوصاً مع معاناة شعبها من نقص المياه والطاقة، ستستمر المفاوضات بخصوص السد حول الجوانب الفنية والمكاتب الاستشارية عدة أعوام أخرى، هذا إن قبلت مصر مواصلة التفاوض بالطرق السلمية، أما إن رفضت وحاولت إدخال أساليب الوعيد والتهديد السابقة التي كانت متبعة في عهدي مبارك والسادات، فإن هذا ليس بالسهل عليها، فسوف تظل تعاني من كثرة إقامة السدود في دول المنبع التي ظلت حقوقها مهضومة لفترة من الزمن، بسبب التخلف والصراعات التي ظلت تعاني منها، بسبب تدخل بعض الدول، التي تعتبر مصر إحداها. هاجس الحق التاريخي ظل يؤجج الأحلام في مخيلة كل الحكام الذين مروا على مصر حتى نسوا أن الشعوب في دول المنبع لا بد أن يأتي يوم وتنهض وتطالب بحقوقها، وعلى مصر تعويض تلك الدول التي ظلت توفر المياه لمصر لفترة طويلة دون أن تمس لتراً واحداً. بعض وسائل الإعلام المصرية ظلت تنادي الحكومة لاتخاذ إجراءات صارمة، يعني أن تعلن الحرب على إثيوبيا، وتعمل على ضرب سد النهضة، فما زالت تلك العقول تعتقد أن الأفارقة هم الذين كانوا قبل ثلاثين عاماً، وما زالت النظرة الاستفزازية تجاه الأفارقة متواصلة.. أين العدل إذاً؟ إذا كان لا بد فإن النيل للجميع، فإن جف فالخسارة للجميع، أما مقولة "مصر هبة النيل" فقد انتهى الوقت على هذه المصطلحات الأدبية الحالمة، فنحن في عصر الكل يطلب فيه حقوقه كاملة، فلا الوقت وقت هيرودوت ولا الوقت وقت الاستعمار البريطاني، فقد ولّى زمن الإغريق والإنكليز. إذا كانت بريطانيا تستطيع أن تطالب بحقوق مصر التاريخية والاتفاقيات البالية التي وضعتها واضطهدت بسببها الأفارقة فإنها قد انتهت الآن وأصبحت حبراً على ورق بالٍ. بسبب تلك الاتفاقيات أقيم السد العالي وهجر أهالي حلفا، وغُمرت مدن وطمست آثار حلفا والنوبة، وأغرقت الكثير من الحضارات النوبية، وظلت بريطانيا بعيدة، والسودان يرغب، وإثيوبيا تحلم ببناء سدود، ودول المنبع تحافظ على المياه من أجل مصر وعيون مصر حتى لا تعطش أرض الكنانة. ألا يكفي أرض الكنانة تخويف بقية الشعوب والمواطن المصري يرش بخرطوم ماء أمام منزله والآخرون يعطشون؟ مقولة رئيس الوزراء الإثيوبي زيناوي قائد النهضة الإثيوبية: "مهندسو السد نحن.. مموّلو السد نحن.. بنائي السد نحن"، صدق هذا الرجل في الكثير من المقولات التي قالها، وها نحن نبني سد النهضة بجهودنا الذاتية خبراتنا. الثورة الإثيوبية عندما قامت لم تكن يهدف قادتها للجلوس على كراسي الحكم، بل إنهم كانوا يهدفون لمحاربة الفقر؛ لأنهم أبناء المزارعين والفلاحين والفقراء الذين اضطهدتهم الأنظمة السابقة، وقد عاشوا تلك الفترة مع ذويهم فترات المحن، ولمحاربة الفقر وتنمية البلاد أصبح أهم شيء هو ترويض هذا الأزرق العملاق -النيل الأزرق- الذي ظل يتمرد على أهاليه لفترة طويلة، وها قد جاء اليوم الذي تم ترويضه، وسيرى الشعب الإثيوبي نتيجة هذا الترويض، ولا يوجد في إثيوبيا مجال آخر سوى بناء سد النهضة الإثيوبي، وتوليد طاقة بسعر أقل، من أجل تعويض الملايين التي تصرف على المواد البترولية والمحروقات، والتي أثقلت كاهل الخزينة الإثيوبية والبيئة الإثيوبية. إذا توقف سد النهضة، فإن الشعب الإثيوبي سيخرج عن بكرة أبيها للذود عنه بدفع الغالي والرخيص، وستندلع ثورة أخرى من أجل مواصلة التنمية وتحقيق حلم القادة الأبطال والمناضلين الذين ضحوا بأرواحهم من أجل هذا الشعب وتحملوا كل المصاعب. كان الحكام الإثيوبيون يعرفون نيات مصر في تطويل أمد المفاوضات وجرجرة هذا الملف وتدويل القضية، فخرجت التصريحات التي نادت بأنها لن توقف بناء السد أثناء المفاوضات، فكان أن صار ما توقعته الحكومة الإثيوبية من فكرة لتعطيل بناء وإكمال سد النهضة الإثيوبي من قِبل الجانب المصري، فكانت الخمسة أعوام التي شهدت مراحل تطور عملية البناء في السد، ووصوله لمراحل متقدمة من حر مال إثيوبيا. على بقية دول المنبع تتبع خطى إثيوبيا ومواصلة نهضتها، وأن تقوم بالاستفادة من نصيبها الذي لا يساوي قليلاً من الكميات التي تهدر في البحر الأبيض المتوسط، والتي تعتبر فائضاً عن حاجة شعب مصر. أيها النيل.. جاء دورك ووقتك لتقف قليلاً وتستريح من الركض ليلاً ونهاراً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.