منذ أن أطلقها المقنع الكندي: (وإن كبير القوم لا يحمل الحقدا) قبل قرون، و(الكبار) يتحملون تبعاتها، بل وأكثر من ذلك، فهذا شيخي الشيخ أحمد بن علي آل الشيخ مبارك يقول قبل ستين عاما: فالزعيم الزعيم من يتلقى صدمة الموت عذبة سلسبيلا، وكم لقي هو من عنت وتعب ونصب في طريقه نحو المجد الذي حفره على الصخر، بأنامل صبرها أقوى منها، فارتقى بنفسه أعلى المراتب، وأضاف إلى رصيد أسرته وبلدته وقائمتها المبجلة شخصية استثنائية، وخدم بكل ما حصل من العلوم والآداب والمناصب والمكانة وطنه وأمته، وترك آثاره وكتبه ومكتبته وأحديته شاهدة له. لست مجبرا أن تتحمل كل هذه التبعات الثقيلة، فيمكنك أن تعيش صغيرا إذا شئت، تصرخ في وجه من يصرخ في وجهك، وتشتم من يشتمك، وتنتقم ممن يعتدي عليك، وتأخذ جميع حقوقك صغيرها وكبيرها، ولا تتنازل عن أي شيء يخصك لأحد كائنا من كان. يمكنك أن تحدد أهدافا صغيرة، تخصك أنت وحدك وأسرتك هذا إذا توسعت، أو حتى لا داعي أن تحدد أي هدف حتى لا تتعب في تحصيله، وهنا ستعيش بهذا الحجم، وستموت -أيضا- بهذا الحجم، وسوف ينساك حتى أقرب الناس إليك بعد مدة وجيزة. أما إذا كنت تريد أن تكون كبيرا.. فالثمن هو أن تتواضع فترفع، وتجود فيخلف الله عليك، وتضحي لغيرك حتى يشفق عليك من حولك، وتقبل الاعتذار ممن تجاوز حدود الأدب معك، وتعفو في أشد الحالات الداعية للتشفي وأنت قادر، بينما أنت تعيش أعذب حالات السعادة التي يبحث عنها أولئك ولا يجدونها حتى إذا ادعوها. لتكون كبيرا فأنت تعطي مَنْ حرمك، وتُصغي لمن احتاجك، ولا تلجئ من هو أكبر منك ليعتذر منك، وتكون كالسحابة لا تسأل على ماذا هطلت، وتكون خيمة لطريد، ودمعة لمحروم، وومضة أمل ليائس. حين سجن ابن تيمية - رحمه الله- بسبب وشايات متعمدة ظالمة، أرسل قائلا: «ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدا، أو مخطئا، أو مذنبا، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفو عنه، والثالث فالله يغفر له ولسائر المؤمنين... لا أحب أن يُقتص من أحد بسبب كذبه علي، أو ظلمه أو عدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم... والذين ظلموا وكذبوا هم في حل من جهتي». هل شققت عليك بهذا الأنموذج؟! صدقني تاريخنا يضج بالنماذج العليا، وقافلة الكبار لم تتوقف منذ أن أطلقها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-. لتكون كبيرا فإنك تفرح بما يُفرح قومك، ولا تنفرد عنهم بما يحتاجون، تُتوج فيهم الأكثر نفعا، وليس الأكثر مالا، والأقرب نفسا وليس الأقرب بابا، تستمع إلى أوجاعهم أكثر من حضورك مناسباتهم، ما أكثرك عند الفزع، وما أقلك حين الطمع. يقول ابن القيم -رحمه الله-: «المؤمن يتوجع لعثرة أخيه المؤمن، كأنه هو الذي عثر بها، ولا يشمت به. وإمساك اللسان عن الشماتة لا يطيقها إلا الكبار». مهم جدا وجود هؤلاء في كل عصر ومصر، فكم تحملوا من حمالات غيرهم عبر التاريخ، يخطئ غيرهم فيعتذرون هم، ويقتل غيرهم، ويدفعون هم من حر أموالهم ما يحقنون به الدماء، ويرقعون به الفتوق، ويرممون به الفجوات، فبهم تسلم القبائل والأسر من الشتات والتفكك، بل بهم ترقى البلاد وتزهر، فهم يحملون رؤية بلادهم، ويدفعون بجهودهم في اتجاهها، يربطون مصيرهم بمصيرها، وآمالهم بآمالها، ويسدون ثغرة في حماها، ويبادرون إلى كل ما يتوقعون أنها تحتاجهم فيه قبل أن تدعوهم لذلك. وكما أن وجود هؤلاء ضرورة في هذا الكوكب، فإن اختفاءهم منه فيه خطورة على قاطنيه، فليس غير العفو إلا البطش، ولا غير الإيثار إلا الأثرة، فكيف لو اختفت صنائع المعروف عن المحتاجين، وانزوى المصلحون عن المتنازعين، ورضي كل إنسان بأن يبيت لا يدري عن جوع جاره، ولا بدمعة أخيه، ولا بنار الحزن في صدر قريبه. الإنسان الكبير يشرك الناس في ماله فيبني لهم المساجد والمشافي ودور التعليم وجمعيات الخير، ويشرك الناس في وقته فيفتي لهم، ويفرج همومهم، ويسعى في تنفيسها، ويشركهم في جاهه فيشفع لهم، ويدافع عنهم حتى ينالوا حقوقهم. كن كبيرا لتعيش الحياة بعدد من تشرق الحياة في وجوههم بسببك.