نتفق أن هناك عفوية في الفعل، وهناك غرابة في الفعل، وهناك تصنع للفعل، وهناك تزكية ورقي للفعل، وهناك تمييز للبيئة التي يمارس فيها الفعل، وهناك تمييز للأشخاص الذين يوجه إليهم الفعل. كما نتفق أننا نستطيع بملاحظتنا لنوعية سلوك واتجاه أيّ إنسان أن نقرر إلى حدّ كبير نوعية الشخصية التي يحملها، والبيئة التي عاش فيها، والتربية التي انعكست على تصرفاته. وقبل ذلك الفهم والتطبيق الذي يحمله لدينه الذي يعتقده. ونتفق أن الانضباط هو سمة من سمات الإسلام هو كلمة شاملة جامعة لكل مناحي حياتنا؛ لذا وجب ضبط كل تصرفات جوارحنا، وهذا من التعبد لله عز وجل ويلتقي الانضباط مع العفوية في وجوب ضبطها بموازين الشرع. يقول الشيخ صالح بن حميد عن أهمية الانضباط والنظام: (تأمَّلوا رحمكم الله هذه الآيات في ترتيب الكونِ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}. ثم تأمَّلوا ما أعقبَها من جُملةٍ من أوصافِ عباد الرحمن في اتِّزانِهم، وانضِباطِهم، وآدابِهم؛ حيث قال عزَّ شأنُه -: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً.} ثم قال سبحانه : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}، كما قال سبحانه : {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}. ومن أهم أساليب احترام النظام أن يكون الإنسان (في أي زمانٍ أو مكان أو ظرف) قدوةً حسنةً، وأسوةً طيبةً لمن حوله في القول والعمل والمظهر، وأن يكون مُلتزماً في واقعه بالسلوك الاجتماعي المقبول في المجتمع؛ وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالتحلي بالأخلاق، ويأتي من أبرز الأساليب وأنفعها لحفظ النظام أن يحرص الإنسان على تقويم وتصحيح ما قد يصدر عنه من سلوكياتٍ خاطئةٍ غير مقصودة، وأن يرجع إلى جادة الصواب إذا ما وقع في الخطأ فعن معاذ أن رسول الله قال له: (يا معاذ، أتبع السيئة بالحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). انضِباطُ المسار، وتوازُن المسيرة، وتهذيبُ السلُوك، وعلوُّ الذوقِ من أُصول الحياة السعيدة، وأُسُس التعامُل في دين الإسلام، وأكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلُقاً، الاعتِدالُ والتوازُن والانضِباطُ والالتزامُ كلُّ ذلك تعكِسُه وتدلُّ عليه هيئةٌ راسِخةٌ في النفسِ البشرية السويَّة تجعلُ ما يصدُرُ عنها من أفعالٍ وتصرُّفاتٍ موافقةً للحق، مُجانِبةً لما يُستقبَح، مُراعِيةً للمشاعِر. التزامٌ في إعطاء الحقوق، وتوازُنٌ ومُوازنةٌ بين الحقوق والمسؤوليات. النظامُ، والانضِباطُ، وحُسنُ الترتيبِ، وسلامةُ التقدير، وجمالُ الذوقِ كلُّ ذلك يحفَظُ الفردَ كما يحفَظُ الجماعةَ، ويُعينُ على تحمُّل المسؤولية، وعلى أعبائِها، ويُثبِّتُ العلاقات الاجتماعية ويُنظِّمُها. التعامُل المُنظَّمُ والتقديرُ الصحيحُ يهَبُ الحياةَ مذاقاً حُلواً، ويقِي بإذن الله من أعباء ثِقالٍ تُرهِقُ الفِكرَ والصحةَ والمالَ، المُسلمُ المُستقيمُ الجادُّ في حياته، المُنظِّمُ لشؤونه يجعلُ لكلِّ جزءٍ من وقتِه هدفاً، ولكلِّ عملٍ من أعماله غايةً، لا وقتَ له يضيع، ولا شيءَ من حياته في فراغٍ، المُوازنةُ عنده ظاهرةٌ بين الأهمِّ والمُهِمِّ وما دون ذلك. وإن للمُسلِمِ في فرائضِ الإسلامِ وأحكامِه وآدابِه ما يُنبِّهُه إلى ضرورةِ الانضِباطِ ولُزومِ الآدابِ في حياته كلِّها ن من علامات سعادة المرءِ أن يُوهَبَ ذوقاً رفيعاً، ومسلَكاً مُهذَّباً؛ حينئذٍ يستمتِعُ بالحياةِ، ويأنَسُ بالجليسِ، وتُقدِّرُه المشاعِر، صاحبُ الذوقِ السليمِ والأُسلوبِ المُهذَّب قادرٌ على استِجلابِ القلوبِ، وجذبِ النفوس، وإدخالِ السُّرور. المُهذَّبُون يتخيَّرون الكلماتِ اللطيفة، ويختارون الأوقاتِ المُناسِبة والتصرُّفات المُلائِمة، أصحابُ الذوقِ الرَّفيع يتحاشَون النِّزاعَ، وحِدَّة الغضبِ، وينفِرون من الأقوال النَّابِية والأفعالِ الشائِنَة، ويجتنِبُون الجفاءَ والغِلظَة). والعفوية في برامج الواقع تستحق التوقف من جهات عدة: الإصرار العجيب على قاعدة لا حقيقة لها، وهي وجوب التفاعل بعفوية تامة سواء من المتسابقين، وأحياناً من الضيوف بحجة أنها برامج واقع وهذا يعني الوقوع في إشكالات عدة سواء في الألفاظ، أو الحركات، أو الأعمال عامة، فتكون إما مرفوضة مباشرة، أو تحتمل أكثر من معنى، وتصدير ذلك للمشاهدين على أنه حق ودخول نزاع وضجة إعلامية لا مبرر لها. العفوية في البيت ومع الأصدقاء تختلف تماماً عن الوقوف أمام شاشات الإعلام التي تكشف التصرفات لتكون باباً للتعلق والمتابعة والعصبية لنجم بعينه أو قناة بعينها والدفاع عن كل تصرفات هؤلاء بأنها عفوية واتهام كل من ينقد وينصح بأنه متحامل وحاقد وحاسد. عدم وجود خطط عملية حقيقة مبرمجة ونافعة للمجتمع يقدمها كل متسابق وتكون شرطاً لدخوله هي سبب جعل العفوية مناخاً متاحاً لتبرير العشوائية والأخطاء المتكررة. العفوية تكون مقبولة مغفورة إن صدرت لمرات معدودة ممن يسعى لتزكية نفسه ورفعها للسمو ويفقه حقيقة وجوده أمام آلاف المشاهدين. العفوية محمودة في مواضع مذمومة في أخرى وهذه قاعدة معلومة بالضرورة وميزانها الانضباط الإسلام شريعة وأخلاقاً كما سبق بيانه، وبرامج الواقع من المواضع التي يجب الحذر فيها من أفعال عفوية قاصمة للمتسابقين ومن يتابعهم. اليقين بالمسؤولية والسؤال عن أفعالنا بل نياتنا يجعل المسلم حذراً متيقظاً محاسباً لنفسه، ويحرص على من يتواصى معه بالحق وبالصبر عليه، وهذا من الأمور التي تجعل العفوية المنفتحة في برامج الواقع في مرمى الحساب. وختاماً: لا نقول لشبابنا اصنعوا حياتكم. ولكن جاهدوا أنفسكم في تزكيتها والتمسك بكل خُلُق حسن يكون في ميزان حسناتكم، وحسنات والديكم وذريتكم والقناة التي أخرجتكم للجمهور، وإحياء سنة حسنة لمن يشاهدكم، وكما جاء في الحديث الذي صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم). وهكذا بقية الأخلاق: (ومن يتصبر يصبره الله). رواه البخاري ومسلم. ونقول لمشرفي برامج الواقع: حتى يضبط الشباب تصرفاتهم ليكونوا نموذجاً مشرفاً متميزاً للمشاهدين لا تعلموهم وجوب العفوية، ولا تجعلوهم في بث مباشر ساعات طويلة جداً قد تستمر لأكثر من 10 ساعات يومياً، وتذكروا فهذا حرج شديد عليهم والرحمة والتيسير ورفع الحرج مطلوبة لهم قبل المشاهدين. والحرج مرفوع في ديننا فكيف نقبله في دنيانا؟ وسوق العرض والطلب لا يكون على حساب الأقوم والأحسن للمتسابقين ومن يتابعهم، واتركوا رغبات بعض المشاهدات فهي لا قيمة لها في ميزان حفظ الدين والأوقات والعقول. وما سطرت ما سبق إلا ليقيني أن كل مسلم فيه من الخير ما يعلمه الله وهو أهل لقبول الحق. كتبته: د.حياة بنت سعيد باأخضر أستاذ مشارك بجامعة أم القرى/1438 هـ