المتابع لأوضاع العالم العربي، يلاحظ أنه كان مستهدفاً منذ سنوات، وبدأ هذا الاستهداف بمخطط الإجهاد السياسي ببروز مخططات لإعادة تفكيك دول المنطقة، ودخولها في دوامة النزاعات والخلافات، فضلاً عن زجّها في عداء مع دول الجوار الجغرافي. ثم دخلت الدول العربية إلى مرحلة أخرى، مرحلة الابتزاز والاستنزاف المالي عبر المتاجرة بالتهديد والحماية وبيع الأسلحة على نطاق واسع، وأخيراً عبر إصدار قوانين على نسق «جاستا» الأميركي، هذا القانون يتجاوز مبادئ القانون الدولي المستقرة ولا يقيم وزناً للحصانة السيادية للدول، ويستهدف اقتناص رؤوس الأموال العربية المستثمرة في الولايات المتحدة، عبر السماح للأفراد بمقاضاة حكومات الدول عن عمليات إرهابية كحادث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وإلزامها دفع تعويضات لأسر الضحايا، يقدرها بعض المصادر بالبلايين، على رغم أن لجان التحقيق الأميركية لم تثبت ضلوع هذه الدول فيها. وتم التغاضي – بطبيعة الحال - عن دور دوائر الاستخبارات الغربية، والأميركية منها خصوصاً، في زرع بعض الجماعات الإرهابية في منطقتنا ورعايتها. والهدف - في تقديرنا - استنزاف دول المنطقة مالياً، خصوصاً السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي، التي تشكل سنداً مالياً احتياطياً مهماً لدول عربية عدة ضمن علاقات التكافل القومي. والمحصلة النهائية، جعل دول المنطقة طيّعة أمام مخططات التفكيك، والحيلولة دون «خطة قومية» تستنهض الوضع العربي الراهن. واستحداث تشريعات أميركية على هذا النحو لا يمس السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي فحسب، بل يمس الدول العربية مجتمعة، ما يتطلب موقفاً عربياً موحداً. علينا التفكير بتبني إجراء تشريعي عربي يسمح في المقابل للجانب العربي بمقاضاة الولايات المتحدة عن الأضرار التي ألحقتها بمنطقتنا. وتدهور الوضع العربي العام، لم يحدث فجأة، ولم يكن خافياً عن معظم قادتنا، ويحضرني هنا قول المغفور له الملك عبدالله بن عبد لعزيز، خلال القمة الخليجية الـ27 في الرياض (ديسمبر 2006)، في توصيف الوضع العربي العام، بأنه «أصبح خزاناً ممتلئاً بالبارود ينتظر شرارة لينفجر». وعلى رغم هذه الخطورة، يلاحظ غياب عربي شبه كامل عن التعامل مع أحداث المنطقة بفاعلية. فالعرب ظلوا بعيدين تماماً، كأن الذي يجري في منطقتهم يحدث في قارة أخرى. وقد امتلك أعداء العرب الجرأة ليعلنوا – من دون خشية – مخططاتهم لإعادة تشكيل العالم العربي، تحت مسميات الفوضى الخلاقة أو الشرق الأوسط الكبير والصغير، ما يجعل المنطقة العربية أمام مشهد شبيه بإعادة الانتداب السياسي أو الوصاية. أصبحنا أمام أزمة وجودية. ومن هنا، يجيء سؤال المصير، هل سنظل نكتفي بالبكائيات على أوضاعنا، والمواقف السلبية على رغم حجم الأخطار والتهديدات المتزايدة؟ بل كيف نفسّر موقف بعض الأطراف العربية التي وصلت إلى حد الدعوة للتخلّي عن الانتماء العربي بالادعاء أن العروبة أصل الداء. ماذا سيبقى لنا لو شطبنا هويتنا العربية؟ وفي الواقع، يعاني الفكر القومي العربي من محنة، وخطابه لا يجد طريقه إلى دائرة القرار إلا بصعوبة بالغة. لذلك، فإن وصف عالمنا العربي بأنه أصبح في مثابة «الرجل المريض»، هو وصف ليس بعيداً من حالتنا الراهنة، والتي ربما تفسر كثرة البكائيات حول مناقب المريض. ويبقى الأمل بأن تجد أحلامنا مساحة تتحرك فيها، الأمل بقيام مجموعة من المفكرين والحكماء العرب، بأخذ المبادرة وقول: «كفى»، بالتصدي للخلافات العربية - العربية العقيمة، حتى يحولوا دون الانهيار الكامل. السياسات الإقليمية في منطقتنا طابعها عدم الاستقرار، فالمتغير فيها أكثر من الثابت، ولذا ربما يكون من المناسب إعادة التفكير في اقتراح «رابطة دول الجوار» الذي قدّمه عمرو موسى خلال القمة العربية في ليبيا (مارس 2010). ويمكن التفكير فيه على المستوى غير الرسمي، بتشكيل فريق من أوساط شعبية وأكاديمية وبرلمانية ودينية، للبدء في عمليات استكشاف أولية مع دولتي الجوار، إيران وتركيا، للتعرف إلى مدى استعدادهما، للبحث في سبل حل القضايا العالقة معهما، والتي لعبت بعض القوى الإقليمية والدولية، وفي مقدمها، الولايات المتحدة وإسرائيل، دوراً رئيساً في تعقيدها. وذلك لا يعفي الدولتين من اللوم، فإيران تجاوزت مبادئ حسن الجوار، بسعيها الى إضعاف عدد من الدول العربية. ولعلنا نتذكر أن أكثر من قمة خليجية دعت إلى الحوار مع إيران شرط الالتزام بداية بالمرتكزات الأساسية لإقامة علاقات حسن جوار، والالتزام المتبادل باحترام سيادة دول المنطقة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. وبالنسبة إلى تركيا، فإن سياسة الجوار الإقليمية يمكن أن تساهم في إيجاد معادلة توازن بين تحديات الداخل ورهانات الخارج، لاسيما إذا تمَّ حل المشاكل العالقة بينها وبين العالم العربي، كما أنها قد تعوض تركيا عن سياسة رفض انضمامها الى المجموعة الأوروبية، وتنبغي الاستفادة من إمكانات تركيا في تعزيز فرص الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وضمن هذا الإطار، نتساءل أيضاً عن أهمية الدعوة الى تجديد الفكر القومي العربي، في سياق جهود انتشال الأمة العربية من حالتها المتردية. وهنا تنبغي ملاحظة أن انحسار التيار القومي فكراً وعملاً ومؤسسات، شكَّل فراغاً سياسياً واضحاً، أفسح المجال أمام انتشار التيارات المتطرفة سواء الدينية أو السياسية، خصوصاً الجماعات التكفيرية، التي تحاول الهرب بالشعوب العربية من واقعها الصعب إلى الظلام. كما شجَّع بعض القوى الدولية على إطلاق الدعوات المتعارضة مع التوجهات القومية، كفكرة الشرق الأوسط الكبير والصغير وغيرها. فالصراع في السياسة، كالفراغ في الطبيعة، جاذب للقوى الأخرى. كما أن «فراغ القوة» في المنطقة العربية وفَّر عامل جذب لتطلعات دول إقليمية لممارسة دور الدولة الكبرى في المنطقة ذاتها، وسمح لها بالتدخل في الشؤون العربية. وتنشيط التيارات الدينية المتطرفة، سهَّل إلى حد كبير تحول حدود العالم العربي المفترض أنها محصَّنة قومياً، إلى حدود مطاطية يسهل اختراقها. ونكتفي هنا ببعض رؤوس الموضوعات: كان بعض دعاة القومية العربية يقللون من أهمية الكيانات القطرية، ويدعون إلى ذوبانها لبناء الكيان القومي. والآن بعد التجارب المريرة، أصبح الأمر يتطلب تصوراً جديداً، يرى في تنمية الدولة الوطنية (القطرية) وتقدّمها مساهمة كبيرة في دعم جهود التكامل العربي الشامل، وهو ليس عملاً تجريدياً في ذاته، ولا يكفيه حسن النيات، بل هدفه تحقيق تعاون إقليمي وثيق في مجالات عدة، ومن ثم التنازل عن بعض صلاحيات السيادة للدول المشاركة، ما يتطلب - ضمن أمور أخرى - نضج الدولة وشعور قادتها بالحاجة إلى التكامل. نعيش في عصر التنافس في سبيل القدرة، وأن من لا قدرة ذاتية له تحميه من الأخطار الخارجية، وتضمن له التقدُّم، فلا عيش له ولا استقرار في عصر التكتلات الإقليمية والدولية، فضلاً عن أن الدعوة الى تجديد الفكر القومي ترتبط بسُنَّة التطور، فمن لا يتطور مع المتغيرات محكوم عليه بالتراجع. وعالمنا العربي ليس أكثر ديموقراطية اليوم مما كان عليه منذ خمسين سنة، بل الأرجح أنه أقل تمتعاً بالحريات العامة مما كان في الماضي. ومن هنا، فإن تجديد الفكر القومي العربي، يجب أن يفسح مكاناً مهماً لعملية توسيع حيز المشاركة الشعبية في صنع القرارات، لأنه من دون هذه المشاركة لا نلوم شعوبنا على سلبيتها، ولنتذكر أننا نعيش في زمن الشعوب. تحريم واضح وصريح لثقافة الضم وتوقيع عقوبات رادعة على أي دولة عربية تقدم على ضم أي دولة إليها بالقوة، أياً كانت الأسباب والمبررات، وإسقاط الممارسات المناهضة للفكر القومي وإدانتها، والتي كانت تمارس خطأ باسم العروبة وقضاياها. تبني موقف واضح من صيانة حقوق الأقليات، يقوم على حق الاختلاف. فالتعدد دليل غنى للعرب والعروبة، والتنوع، إذا أُحسن استثماره، يمكن أن يساهم في إنماء المجتمع العربي وتطويره. إلقاء الضوء على محاولات افتعال الصدام والتعارض بين الإسلام والعروبة بقصد إضعافهما معاً لمصلحة صيغ جغرافية أوسع نطاقاً. فعزة العرب هي عزة وسند للإسلام وافتعال النزاع في الشخصية العربية بين أرومتها وتراثها يهدف إلى شق المجتمع العربي إلى شطرين متحاربين، ويهيئ هذا المجتمع لكل أنواع التفتيت والتدخلات الخارجية. فالقومية والدين يتساميان على العنصرية والطائفية والشعبوية. * سفير مصري سابق