دائما ما يرتبط الحديث عن التضخم وارتفاع الأسعار مع قدوم شهر رمضان المبارك : يرتفع طلبنا من السلع الغذائية تحديداً وترتفع الأسعار تحسباً وتكسباً، وفي النهاية لا نقوم نحن بتخفيض الطلب ولا يقوم التجار بزيادة الكمية للموازنة بشكل كاف. الأرقام والبيانات المستخدمة في هذا التقرير تشير إلى إمكانية حدوث موجة تضخم جديدة في الاقتصاد السعودي خلال الأشهر القليلة المقبلة إذا لم يتم استدراكها. وذلك لعدة أسباب من أهمها : أولاً : ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الشهرين السابقين لرمضان تحديداً وانخفاضها بنهاية الشهر، وتشير البيانات حسب الرسم أدناه بأن أسعار المواد الغذائية ترتفع في كل سنة بنفس الوتيرة أي شهرين ما قبل رمضان ثم تنخفض بعده (الأعمدة باللون الأحمر تشير للأشهر الميلادية التي تصادف ما قبل رمضان)، ولكنها تكون أعلى في العام التالي. ففي العام الماضي وافق الأول من رمضان تاريخ ١٩ يوليو ٢٠١٢، وبالتالي كانت الارتفاعات في المواد الغذائية قد بدأت منذ شهري مايو ويونيو السابقين له بارتفاع تدريجي، حيث يفضل بعض المتسوقين البدأ بالاستعداد قبل حلول الشهر الفضيل ببعض الوقت. الجديد في هذا العام هو تقرير البنك الدولي الذي صدر الأسبوع الماضي والذي يفيد بانخفاض أسعار الغذاء عالمياً خلال الأشهر الأربعة الماضية ما بين فبراير ويونيو بنسبة ٢٪، بينما ارتفع مؤشر أسعار المواد الغذائية في سوقنا المحلي خلال نفس الفترة بنسبة ١.٧٪. ثانياً : استمرار ارتفاع سعر النفط، مما يزيد تكلفة الإنتاج الصناعي والنقل حول العالم وبالتالي ولكوننا اقتصاد يستورد فارتفاع التكلفة سيمسنا كمستهلكين في نهاية المطاف. فقد ارتفعت أسعار خام برنت بنسبة ٤٥٪ خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ثالثاً: استمرار انخفاض الدولار الأمريكي من بعد الأزمة المالية، لكون الريال السعودي مرتبط بالدولار فإنه حالياً يعتبر مقيم بأقل من قيمته العادلة. ولتوضيح هذه النقطة، سعر الريال السعودي حالياً في سوق الصرف الأجنبي منخفض نسبياً فقط لكونه مرتبط بالدولار الأمريكي الذي ضعف بسبب تأثر الاقتصاد الأمريكي بالأزمة المالية منذ عام ٢٠٠٨ وحتى الآن، ولا يعكس سعر الريال الحالي أداء الاقتصاد السعودي القوي كما هو الحال في أسعار الصرف المعومة. ولهذا السبب نجد أن ضعف الريال السعودي قد أدى إلى ارتفاع سعر الواردات على المستهلك المحلي وبالتالي ارتفاع حجمها، وزيادة الطلب على السلع والخدمات المحلية أيضاً بسبب انخفاض القدرة الشرائية عن مستواها سابقاً مما أدى إلى طلب المزيد من السلع والخدمات. أتت الزيادة في حجم الواردات بنسبة ٦٣٪ ما بين عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٢ وتشكل الواردات الغذائية من إجمالي واردات عام ٢٠١٢ نسبة ١٤٪. رابعاً: ارتفاع السيولة بين الأفراد : تشير البيانات الحديثة إلى أن حجم الحسابات الجارية قد زاد بنسبة ٢٠٪ لشهر يونيو ٢٠١٣ عن يونيو ٢٠١٢ بينما ارتفعت الودائع الادخارية بنسبة ٣٪ فقط لنفس الفترة، مما يعني ارتفاع السيولة والنقد المتداول في يد الأفراد مقارنة بمدخراتهم، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع طلبهم على السلع والخدمات، وبالتالي إلى ارتفاع أسعارها وارتفاع معدل التضخم. ومما يدل على ارتفاع السيولة بين الأفراد أيضاً ارتفاع مستوى القروض البنكية للأفراد والشركات في يونيو ٢٠١٣ بنسبة ١٦٪ مقارنة ب ٧٪ فقط في يونيو ٢٠١١ وارتفاع عرض النقود بحوالي ٥٪ خلال الشهور الستة الأولى من ٢٠١٣ مدعوماً بالزيادة في مقياس عرض النقود الضيق (ن١) الذي يشمل الحسابات الجارية والنقد المتداول خارج البنوك فقط. ردة فعل السلطات المختصة: تظهر البيانات الصادرة عن مؤسسة النقد لشهر يونيو زيادة شراء البنوك المحلية من أذونات الخزينة التي تصدرها مؤسسة النقد بنسبة ٣٢٪ عن يونيو ٢٠١٢ وانخفاض شرائها من السندات الحكومية لنفس الفترة بنسبة ١٩٪. زيادة إصدار المؤسسة من الأذونات يعد سياسة نقدية تهدف لامتصاص السيولة في السوق المحلية وذلك بسبب كونها قصيرة الأجل وبالتالي عالية السيولة والتحكم فيها أسهل من خلال بيعها وشرائها من البنوك المحلية والشركات. فمع ارتفاع قيمة وكمية اذونات مؤسسة النقد والتي تبيعها للسوق المحلية فإنها قد تهدف بذلك إلى امتصاص السيولة المرتفعة في سبيل المحافظة على مستويات التضخم وعدم ارتفاعها، وقد يكون الوقت الآن أكثر ملاءمة للمعاودة لإنتاج السندات الحكومية التي توقفت منذ نحو خمس سنوات. زيادة الإصدارات الحكومية للسندات المختلفة لا يعني بالضرورة احتياج الدولة إلى تمويل كما كان الوضع في الثمانينات والتسعينات الميلادية، فهو أداة سياسة نقدية هامة للتأثير على مستوى السيولة في أي اقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، نجد أن وزارة التجارة أطلقت حملات مكثفة تراقب الأسواق لرصد مخالفات التجار ممن يثبت عليهم التلاعب بالأسعار . التضخم بحد ذاته ظاهرة صحية فيما لو كانت ضمن الحدود المخطط لها، ففي الوقت الحالي نجد أن كلاً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان جميعاً يشكون من انخفاض معدل التضخم لديهم لمستويات منخفضة لم تتجاوز ١.٥٪ منذ الأزمة المالية، ويطمحون لرفعه. فزيادة الأسعار بشكل سنوي معقول أمر حيوي يدل على زيادة الطلب العام في الاقتصاد المحلي والذي ينتج عن الثقة في الاقتصاد وتوفر وظائف تدر دخلاً على المواطنين بشكل كاف، ولكن معدل التضخم المستهدف لدى تلك الدول هو ٢٪ فقط وتدور سياساتها النقدية حول استهداف ذلك المستوى ارتفاعاً أو انخفاضاً. أما الوضع في الاقتصاد السعودي فمختلف، فبسبب ربط الريال بالدولار الأمريكي لا تملك السلطات المحلية رفع أو خفض أسعار الفائدة للتحكم في مستوى السيولة في الاقتصاد، ولكنها بالمقابل تمتلك أدوات ووسائل أخرى كثيرة، منها على سبيل المثال إصدار المزيد من السندات الحكومية وأذونات الخزينة، ومراقبة مستوى إقراض البنوك للأفراد .