×
محافظة حائل

وزير الصحة يتفقد المشاريع المتعثرة في حائل غدًا

صورة الخبر

سلمان عز الدين أزمة الكتاب.. موضوع مثالي لتدريب الصحفيين المبتدئين، في كل موسم للكتاب، والمواسم كثيرة بالطبع، ينطلق الصحفيون بآلات تسجيلهم ليستطلعوا آراء الناشرين والمؤلفين والقراء، مطلقين الأسئلة نفسها ليحصلوا على الإجابات نفسها.. والحصيلة: حبر غزير يُسفح في الشكوى والندب والتقريع. غير أن هذا الهذر يجب ألا ينسينا أن المشكلة قائمة بالفعل، وابتذال الكثيرين لهذا الموضوع يجب أ لا يلهينا عن الإصغاء إلى الأصوات العاقلة التي تعرف عما تتحدث، والقادرة على تلمس الطريق نحو المخرج. محمد عدنان سالم واحد من هؤلاء، فالرجل ناشر مخضرم وسبق له أن احتل مواقع مهمة في اتحاد الناشرين السوريين واتحاد الناشرين العرب، كما أن له مساهمات عملية وتنظيرية كثيرة حول صناعة النشر في العالم العربي. في كتابه هموم ناشر عربي يأخذنا سالم إلى كواليس مهنة الناشر، وفيما يركز على الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية للمشكلة، فهو يلح على أن الكتاب صناعة أيضاً من التأليف، إلى التنقيح، إلى الإخراج، إلى الرقن، إلى التصحيح، إلى المراجعة، إلى الفهرسة، إلى التدقيق، إلى الطبع، إلى التجليد، إلى فحص الجودة، إلى الإعلان، إلى التوزيع.. من ألف النشر إلى يائه، يمضي بنا المؤلف في رحلة شيقة مليئة بالتفاصيل الممتعة والتجارب الشخصية الطريفة والهموم التي لا نملك غير التعاطف مع أصحابها. اللافت أن المؤلف الناشر لا ينطلق في بحثه من الدفاع عن نفسه وزملاء مهنته، فهو يعترف بالصورة السلبية الشائعة عن الناشر العربي، والتي تظهره جشعاً يفضل الربح السريع، غير عابئ بالرسالة الثقافية لمهنته. بل إن سالم يتوسع في استعراض نماذج سلبية من الناشرين وذكر أوجه قصورهم، من الإهمال والاستعجال.. إلى قلة الوعي وغياب المهنية.. إلى عدم احترام الكاتب والقارئ.. وهو يتحدث صراحة عن أزمة ضمير: إنها أزمة ذاتية، مصدرها نحن الناشرين، وأعراضها الخطيرة تفتك بنا، واستشراؤها فينا يمس شرفنا المهني، ولا يليق بقدسية المهنة التي احترفناها، وعلاجها ينبغي أن يكون في أيدينا نحن. فأنا ممن يحب البدء بأداء الواجبات، قبل المطالبة بالحقوق، ويحب أن يبدأ التغيير من الذات بدلاً من أن يفرض من قبل الغير. ويعيب سالم على صناعة الكتاب العربي غياب المواصفات العلمية الدقيقة، فمن المفيد جداً أن يكون للناشر دليل عمل مطبوع يوضح فيه هذه المواصفات، والقواعد، وطرق وأساليب العمل، وجداول إشارات التصحيح، والمصطلحات الطباعية، والقواعد المعتمدة لديه في الإملاء وعلامات الترقيم، وفي الإحالة إلى المراجع والنصوص، وفي الفهرسة، وفي وصف الكتاب، وفي طريقة ترقيم الطبعات. هذا الدليل سيكون مفيداً جداً، لا في تحسين الأداء فحسب، بل في تنمية وتوطيد العلاقات بين أطراف صناعة الكتاب. إن غياب المنهج العلمي والأوصاف الدقيقة الموحدة في إنتاج الكتاب يلحق كثيراً من الضرر بثقافة المجتمع. فما تعج به الكتب المطروحة اليوم من الأخطاء والتناقض، يؤثر تأثيراً كبيراً على عقلية أجيالنا، ومناهج تفكيرنا، ولغة أبنائنا. لا يريد سالم للناشر أن يكون مجرد صانع حرفي، يجلس في مكتبه بانتظار مخطوطات المؤلفين ليختار منها الأوفر كلفة والأكثر قابلية للرواج والربح، بل يريده موجهاً ثقافياً، وصانع مشاريع ومجترح أفكار.. لقد آن لنا أن نرتقي بمهنة النشر إلى المستوى اللائق بها، وأن نشعر بمسؤوليتنا الكبيرة عن الكلمة التي ننشرها، وأن نمحو الصورة القاتمة التي رسمت لنا، ونحن نتعامل مع الكتاب الخالد كما نتعامل مع سلعة زائلة. لكن أزمة الكتاب العربي لا تتعلق بالناشر فقط، فهناك الكاتب الذي بانفصامه عن قضايا مجتمعه وبعدم قدرته على التجديد واجتراح الأفكار والمقاربات الأصيلة.. بكسله ولجوئه إلى الانتحال من الشائع والمكرور.. يشكل عنصراً أساسياً في هذه الأزمة. يعيش الكاتب معاناة كبيرة في مجتمعات التخلف التي تمزقها النزاعات الطائفية والقبلية والعرقية والسياسية.. تلك المعاناة التي تتمثل في أشكال الاحتواء والإغراء والاضطهاد والتدجين والسطو والتزييف والإلحاق والإعواز.. سلسلة من الرقابات السياسية والاجتماعية والدينية تقف له بالمرصاد وتمنعه من الجهر بأي رأي مخالف، فهو لذلك مكبل بقيود الرأي السائد، والثقافة المتعارف عليها.. فأي إبداع يمكن أن يتحقق في ظل الإرهاب الفكري أياً كان مصدره؟! وأي إصلاح يرتجى إذا كان المؤلف ممنوعاً من تجاوز الثقافة المسيطرة؟ ومع ذلك، فإن على الكاتب واجباً لا يمكن التنصل منه، ف حين ندرك أن التخلف، إنما هو ثمرة للثقافة السلبية المعششة في أذهاننا؛ فإن الخروج من التخلف يقتضينا البحث عن رؤى جديدة خارج إطار ثقافتنا التقليدية التي أورثتنا التخلف.. إن كثيراً من الكتاب، ينظرون إلى هذه المعوقات من زاوية الحق، فهم لا يستطيعون أن يعملوا وأن يبدعوا إلا حين يتوافر لهم المناخ الثقافي الملائم، الذي يقوم على حرية التعبير، واحترام الرأي المخالف، وأنهم، بانتظار منحهم هذا الحق، لا عليهم أن يطبلوا للفكر السائد، وأن يصفقوا للثقافة المسيطرة. يقول سالم: إنني أقدر كثيراً ظروف المؤلفين، التي تعوقهم عن الإبداع، وتلحق بهم كثيراً من الظلم والحيف والإهمال.. غير أني أنظر إلى هذه المعوقات من زاوية أخرى غير زاوية الحقوق التي ينتظرون أن تمنح لهم حتى يبدعوا.. إن المطالبة بالحقوق، تقتضي وجود طرفين؛ مطالب بها ومانح لها، ولابد أن ينتظر أحدهما الآخر، أما أداء الواجبات فإنه لا يتطلب غير وجود طرف واحد، فالواجب مسؤولية ذاتية، يمارسها الإنسان من تلقاء نفسه، لا ينتظر من أحد أن يأذن له بممارستها، بل هو يتحمل كل تبعاتها، مادام مقتنعاً بها، حتى إنه ليستعذب كل أذى يصيبه في سبيلها.. خلف كل هذه التفاصيل تبقى أزمة الكتاب العربي متمثلة أساساً في الكساد، يبدو ذلك واضحاً من اضطرار معظم الناشرين، بمن فيهم ناشرو القطاع العام، إلى تخفيض عدد النسخ التي يطبعونها من الكتاب لكيلا تتكدس في مستودعاتهم من دون أن تجد من يتلقاها بالعناية والإقبال. يرى البعض أن غلاء سعر الكتاب هو السبب الرئيسي والأهم في الأزمة، فهو الذي يحرم ذوي الدخل المحدود من اقتناء الكتب، ويجعلها حكراً على الموسرين القادرين على شرائها ليزينوا بها مكتباتهم المنزلية، ويضفوا بها على ديكور المنزل لمسة جمالية تظهرهم في عداد المثقفين. وهكذا نجد أن من يرغب بقراءة الكتاب لا يقدر على شرائه، ومن يقدر على شرائه لا يقرؤه. ويرد هذا البعض غلاء سعر الكتاب إلى جشع الناشر الذي يستغل حاجة الناس إلى الكتاب فيرفع سعره، ويكتفي هؤلاء بإلقاء المسؤولية على عاتق الناشر، ويطالبونه وحده بالحل. يدرس سالم، بداية، العناصر المكونة لسعر الكتاب، من حقوق المؤلف وصولاً إلى نافذة البيع، ثم يتساءل: هل حقاً إن غلاء سعر الكتاب هو السبب الحقيقي في أزمته؟ لقد نجحت بعض مؤسسات النشر الرسمية في تقديم الكتاب للقارئ بسعر منخفض، مستفيدة من الدعم الذي تلقاه من الدولة، فهل استطاعت أن تحل أزمة الكتاب بذلك؟ وهل أقبل القراء على شراء الكتاب بحيث اضطرت إلى زيادة كمياتها المطبوعة؟ الواقع يشير إلى أن الأزمة ما زالت مستمرة في التفاقم، وأن تخفيض سعر الكتاب لم يغير ولن يغير كثيراً فيها، ف وراء أزمة الكتاب أسباب أخرى يجب البحث عنها. إن عزوف القارئ عن شراء الكتاب يؤدي إلى تخفيض كمية طبعه، وتخفيض كمية الطبع يؤدي بدوره إلى ارتفاع تكلفة الكتاب، وبالتالي إلى رفع سعره، الأمر الذي يزيد الأزمة تعقيداً ويجعلها تدور في حلقة مفرغة. في أوروبا والبلدان المتقدمة يبلغ سعر الكتاب أضعاف سعر الكتاب العربي ويطبع بكميات أكبر بعشرات المرات، وتنفد كمياته الكبيرة في مدة أقصر. إنهم يقرؤون ولا نقرأ. ويتحرك الكتاب عندهم بلا قيود، وتكبله عندنا القيود. وتتضافر الجهود عندهم لتنمية عادة القراءة، وتشجيع الإنتاج الفكري، ويعاني عندنا الإهمال. ويتفاعل المؤلف عندهم مع قضايا مجتمعه ويلبي حاجاته الفكرية، ويكرر مؤلفونا أنفسهم دون إبداع. لا يقلل سالم من مسؤولية الناشر، ولكنه يضيف إليه شركاء في المسؤولية، وإضافة إلى الكاتب هناك القارئ الذي يجب أن يعود نفسه على القراءة ويخصص لها جزءاً كافياً من وقته، ومن دخله، ومن اهتمامه. وهناك الدولة والتي هي وحدها من يقدر على خلق مناخ مشجع على القراءة، عبر استراتيجيات ثقافية طموحة وفعالة.