تتعرض المحكمة الجنائية الدولية لانتقادات واسعة، بسبب تحيزها ضد القارة الإفريقية. فمنذ نشأتها قبل أكثر من 10 سنوات، ركزت الهيئة القضائية الدولية على جلب الأفارقة للمحاكمة. وقد أدت هذه الحقيقة إلى الاتهامات المتكررة للمحكمة الدائمة، التي أنشئت للنظر في أسوأ الفظائع التي ترتكب في العالم، بما في ذلك جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وأعلنت جنوب إفريقيا، قبل أيام، مغادرتها للمحكمة، ما أثار القلق بين المدافعين عن حقوق الإنسان، إزاء خروج محتمل للعديد من الأعضاء من المحكمة. كما قال المسؤولون في بورندي إن بلادهم تنوي الانسحاب من المحكمة، أيضاً، ويرى مراقبون في هذا القرار محاولة من جانب قادة البلاد، لتجنب التدقيق في أكثر من عام من العنف السياسي، الذي اندلع بعد أن قرر الرئيس بيار نكورونزيزا، الترشح لولاية ثالثة. إصلاحات قيد المناقشة يقول الخبير القانوني، كاماري كلارك، إن الانسحابات المخطط لها قد توفر حافزاً للمحكمة، كي تنظر بجدية على الأقل إلى بعض الإصلاحات قيد المناقشة في الاتحاد الإفريقي حالياً. ومن بين المقترحات الأكثر إثارة للجدل توفير حصانة قانونية لرؤساء الدول الذين لايزالون في السلطة، والسماح للجمعية العامة للأمم المتحدة بالتصويت على ما إذا كانت الجرائم ستحال إلى المحكمة الجنائية الدولية، إذا لم يتمكن مجلس الأمن من التوصل إلى قرار. وعلى الرغم من أن مغادرة المزيد من البلدان، يمكن أن يضر بصدقية المحكمة، يرى بعض المدافعين أن المحكمة ستكون أفضل من دونها. ويعتقد المدير التنفيذي للجنة الحقوقيين في كينيا، صامويل موهوتشي، أنه «يوم حزين جداً للعدالة الدولية، أن تتخذ دولة ينظر إليها على أنها تقدمية، مثل جنوب إفريقيا، مثل هذا التحول العنيف»، مستدركاً «لكن إذا كانت هناك دول مصرة على الانسحاب، فمن الأفضل أن تنسحب بدلاً من البقاء ضمن الموقعين، والاستمرار في تقويض المحكمة من الداخل». لكن انسحاب جنوب إفريقيا، الدولة الرائدة في القارة السمراء والمؤيد القوي للعدالة الدولية، يمكن أن يكون له ضرر أكبر، وفقاً للخبير القانوني كاماري كلارك، الذي يعتقد أنه «من الوارد أن تحذو بلدان إفريقية أخرى حذو جنوب إفريقيا». ويقول الأستاذ في جامعة «كارلتون» بالعاصمة الكندية أوتاوا، الذي يتابع أنشطة المحكمة في إفريقيا، إن «مستقبل المؤسسة الدولية بات على المحك». والمحكمة الجنائية الدولية، التي بدأت تنظر في القضايا، في لاهاي، قبل نحو 14 عاماً، تأسست كملاذ أخير، لمقاضاة الانتهاكات الجسيمة، عندما تكون البلدان غير قادرة، أو لا تريد ملاحقة المسؤولين عن تلك الانتهاكات. اختصاص محدود اختصاص المحكمة الجنائية الدولية محدود، ويمكنها التحقيق في الجرائم التي وقعت أو ارتكبت من قبل مواطني الدول التي صادقت على معاهدة تأسيسها. ولا يمكنها أن تعمل في أي مكان آخر دون إحالة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ومن بين 10 تحقيقات أولية، أدت إلى إجراء تحقيقات كاملة، شملت تسعة منها صراعات في إفريقيا. لكن المدعي في المحكمة، فاتو بنسودة، يشير إلى أنه في ست من هذه الحالات، تدخلت المحكمة الجنائية الدولية بناءً على طلب من الحكومات المعنية. وكان القادة الأفارقة من أقوى المدافعين على المحكمة عندما أنشئت، وذلك جزئياً بسبب الجرائم المروعة التي ارتكبت خلال الإبادة التي شهدتها رواندا عام 1994. ونجد في القارة 34 عضواً في الاتفاقية من أصل 124 بلداً صادقت على اتفاقية روما. وأطلقت المحكمة الجنائية تحقيقات أولية في عدد من البلدان خارج إفريقيا، بما في ذلك أفغانستان وكولومبيا. لكن عدداً قليلاً من الدول في الشرق الأوسط أو آسيا انضمت إلى المحكمة. وقد استخدم مجلس الأمن سلطته لإحالة بعض الدول غير الأعضاء، مثل ليبيا والسودان. لكن القوى الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا والصين، تعتبر بعيدة عن متناول المحكمة لأن لديها حق النقض «الفيتو» لقرارات المجلس. كما أن روسيا والصين استخدمتا حق النقض لمنع إحالة الحرب في سورية، رغم أن العديد من البلدان ترى ضرورة إصدار مذكرات تحقيق من قبل المحكمة في جرائم ارتكبها النظام السوري. وفي ذلك يقول المحامي السابق في مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، جيمس غولدستون، إن «المشكلة الأساسية هي أن المحكمة تعمل في عالم متفاوت سياسياً واقتصادياً»، ويضيف المحامي، الذي يشغل الآن منصب المدير التنفيذي لـ«مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح»: «للأسف، لا تستطيع المحكمة تدارك الأمر في ما يخص هذه المسألة، في المقابل يقع عليها الكثير من اللوم». تراجع التأييد تراجع التأييد للمحكمة الجنائية الدولية بين قادة إفريقيا، منذ توجيه الاتهام إلى كبار السياسيين، بما في ذلك رئيسا كينيا والسودان. وقد وصف مراقبون المحكمة بأنها أداة لاستعمار جديد، مشيرين إلى أن الدول التي لم تصادق على اتفاقية روما، الخاصة بالتحكيم الدولي، هي التي تمارس الضغط الأكبر لتقديم القادة الأفارقة إلى المحكمة. وأعربت جنوب إفريقيا عن استيائها، العام الماضي، عندما اتهمت بتجاهل التزاماتها إزاء المعاهدة الدولية، لأنها سمحت للرئيس السوداني عمر البشير - المتهم بارتكاب الإبادة الجماعية وجرائم أخرى في إقليم دارفور - بحضور قمة الاتحاد الإفريقي دون القبض عليه. ويؤكد مسؤولون في جنوب إفريقيا أن معاهدة روما باتت تناقض جهودها لتشجيع التوصل إلى حلول سلمية للنزاعات في القارة، والتي تشمل استضافة الخصوم. وسيتم طرح قرار الانسحاب من المحكمة للتصويت في برلمان البلاد، لكن من المتوقع أن يحصل على موافقة. وعبر قادة بوروندي عن غضبهم إزاء تقرير تدعمه الأمم المتحدة، الشهر الماضي، يشير إلى وجود أدلة على انتهاكات يمكن اعتبارها في بعض الحالات جرائم ضد الإنسانية. ووثق التقرير 564 حالة قتل، منذ اندلاع الاحتجاجات المناهضة للحكومة في أبريل 2015، فضلاً عن حالات التعذيب والاعتداء الجنسي والتشويه الجسدي. في حين اعتبرت جماعات معارضة مسؤولة عن بعض أعمال العنف، إلا أن التقرير، حمل مسؤولية الغالبية العظمى من هذه الانتهاكات للحكومة. انسحاب جماعي أجهضت محاولات للانسحاب الجماعي من المحكمة، في يوليو الماضي، خلال اجتماع للاتحاد الإفريقي، إلا أن قرار جنوب إفريقيا وبورندي من شأنه أن يدفع الدول الأخرى إلى ترك هذه المؤسسة الدولية من تلقاء نفسها. وقد صوت برلمان كينيا لصالح الانسحاب في 2013، بعد اتهام رئيسها، أهورو كينياتا، بتدبير موجة من أعمال عنف في أعقاب انتخابات 2007، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1000 شخص. ولم تكتمل التحقيقات في هذه الحالة بسبب عرقلة عمل المحكمة، من خلال التأثير في الشهود، والعبث بالأدلة من قبل الحكومة الكينية، وفقاً للمدعي في المحكمة. وهذا العام، وافق مجلس الوزراء في ناميبيا، أيضاً، على مغادرة المحكمة، لكنه لم يتخذ أي خطوات ملموسة للقيام بذلك، مثل كينيا. ومع ذلك، فإن المحكمة لاتزال تدافع عن قضايا بلدان القارة، بما في ذلك بوتسوانا والسنغال وتونس. ويرى الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان (من غانا)، الأمور بشكل مختلف، ولا يرى أن القارة السمراء مستهدفة من قبل محكمة الجنايات الدولية، وقال في حوار مع صحيفة «فايناننشيل تايمز»، في يونيو الماضي، إن الرئيس الصربي السابق سلبودان ملوزفيتش وآخرين أدينوا في تهم تتعلق بجرائم الحرب، من قبل محكمة خاصة بيوغسلافيا، وذلك قبل إنشاء محكمة دولية متخصصة في مثل هذه القضايا. وأشار أنان إلى أن التركيز يتم على حماية الزعماء الأفارقة متسائلاً: «من سيتحدث عن الصغار في هذه القارة؟».