يقرر ابن خلدون وهو يتأمل أحوال الأمم وعلاقتها بالبداوة أن أساس الشعوب هو البادية ومن ثم ارتقوا إلى الحياة الحضرية، زراعةً أو صناعة أو تجارة، فالبدو أصل للمدن والحضر، ثم ينبه على المنحى الشفاهي في ثقافة البادية، وأن الكتابة مرتبطة بالأمصار، يقول: «ولهذا نجد أكثر البدو أميين، لا يقرأون ولا يكتبون، ومن قرأ منهم أو كتب، يكون خطه قاصرا، وقراءته غير نافذة. ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ، وأسهل وأحسن طريقا، لاستحكام الصبغة فيها». فالأمية لا تعيب البداوة ولا البدو، لأنهم في انعزالهم النسبي عن العالم الخارجي حافظوا على سواء اللغة، وعندما خالطوا العجم، تغير لسانهم وظهر اللحن، وبمرور الزمن، لم تعد العربية نقية في البادية، فقد تمكنت اللهجات منها. لقد كان الشعر يسري بين القبائل العربية في الجاهلية كالنار في الهشيم، فما أن تصدر قصيدة أو أبيات منها لشاعر في شعب من شعاب الجزيرة، حتى تجدها قد وصلت إلى شعاب أخرى، عبر قنوات سهلت عملية سيرورتها، معتمدة على شغف العرب وحبهم للشعر والسماع، خصوصا في ما يتعلق بهجاء قبيلة أو الفخر بأمجاد قبيلة أخرى، ومن هذه القنوات: الوفادة على الماء، والأسمار العربية، والضيافة العربية، والقوافل التجارية، والأسواق، والحروب، والوفادات على الملوك، ومواسم الحج، فهي محطات للرواية حيث يجتمع الناس في تلك الفضاءات، وهم من قبائل متفرقة، فينقل الحاضر إلى الغائب، وينقل الفرد إلى القبيلة، وكان الشعر يروى، جنبا إلى جنب مع القصص والأخبار والمواقف، أي أن السرد صاحب الشعر، وبرز في القبائل رواة وإخباريون يعنون بكل هذا. والأمر نفسه كان مع رواية أيام العرب في الجاهلية ثم بعد مجيء الإسلام، وسرديات السيرة النبوية وقصص الصحابة والتابعين، فقد شملت من الأحداث والمواقف، والشعر والمنثور الكثير، ووجدت آذانا صاغية، ونفوسا مرحبة بها، طيلة العصور الإسلامية. واستمرت الرواية الشفاهية في تأسيس الثقافة العربية الإسلامية على أسس قوية، اتخذت من الإسلام قوة روحية، ومن الفتوحات عناصر تيها وفخرا، ومن الرغبة في التأسيس الحضاري سبباً لتحويل الجهد من الرواية لمجرد الرواية إلى الرواية لأهداف تعليمية «تعليم الأجيال»، أو فنية «الإمتاع والتسلية وتذاكر أخبار السابقين» أو توثيقية «من أجل حفظ التراث العربي من عوادي الزمن، عبر حركة الجمع والتدوين، وما واكب ذلك من عمليات التوثيق والضبط»، بجانب أبعاد اجتماعية تمثلت في مقاومة اللحن، ومجالسة الخلفاء والولاة والأمراء وغيرهم من الأعيان، وأيضا المجالس التقليدية على عادة العرب. فاستمرت الرواية الشفاهية للشعر والسرد، وحافظ الرواة على الأخبار، وجددوا التراث العربي الجاهلي والإسلامي، وبالطبع حافظوا على النصوص المروية قدر استيعاب ذاكرتهم، ومهاراتهم في الحفظ، والاسترجاع، بنفس التراكيب والجمل. وتطور الأمر ليظهر بعد ذلك «الشاعر الحكواتي» وهو اصطلاح يفتح المجال للنظر في طبيعة دور الراوي للشعر في السير الشعبية قديما، فهناك من الرواة الذين هم أشبه بآلات التسجيل، يجيدون الحفظ والاستظهار وإعادة التقديم، وهناك من يضفي على النص المروي بعضا من روحه ووجهة نظره، مراعيا تشويق مستمعيه، أو قول ما يرضيهم، خصوصا إذا اتخذ الرواية حرفة على نحو ما نجد عند رواة السير الشعبية العربية، الذين جابوا القرى والبوادي، وكانوا يقصون مستخدمينَ قدراتهم الأدائية، وبعضهم استخدم آلات موسيقية شعبية «مثل الربابة في مصر»، فيما يسمّى الأداء المحترف للرواة الذين كانت لهم تقاليد ثابتة أو شبه ثابتة، بحسب درجات الاحتراف في صنعة الإنشاد، والتي كانت غالبا وراثية وتعتمد على التلقين والمشافهة والمحاكاة، حفاظاً على سر الصنعة، وسرية النص. وقد كان الإنصات إلى رواية السير الشعبية أمراً رائجاً حتى القرن التاسع عشر والعشرين، بين المتعلمين والبسطاء على حد سواء، وكان الحكواتي أو شاعر الربابة يستغرق ستة أشهر تقريبا في إنشادها، نظرا لضخامة هذه السير، حيث يستأنف المنشد كل مساء الإنشاد، من حيث انتهى في الليلة الماضية، وكان المنشدون/ الرواة من العبقرية بحيث يثيرون السامعين «بالإمعان في الإيهام لهم»، ما يجعل المستمعين أحيانا يرفضون إنهاء الجلسة، إذا كان بطلهم أسيرا أو مسحورا، فلابد للراوي أن يحرره. وبعضهم اختصوا بسير شعبية بعينها، لأن قومهم يريدون تلك السير، لأنها تمثل امتداداً تاريخياً خاصاً بهم، أي بها جانب وجداني يفتخرون به يطلق عليه باحثو الفولكلور «البعد الثالث»، لأن السيرة الشعبية «ومثلها كذلك سرديات جماعية كثيرة» يرون السيرة مصدرا للتأريخ والبطولات وتنمية الفخر والعزة، مما يحفز الراوي على إشباع هذا الجانب لدى مستمعيه من البسطاء والمتعلمين. وقد حرص الراوي/ الحكواتي في السير الشعبية على الالتزام بأمور عديدة منها: اللغة المفهومة التي ينبغي أن يقدمها لمستمعيه، والأداء الفني الجاذب، والمصطلحات السهلة، والتشويق، وتقديم دور تعويضي نفسي، يشبع الرغبة في الفخر والاعتزاز في نفوس سامعيه أو ما يسمى منظومة القيم الثقافية المقدمة للسامع، فكانت لها وظائف عديدة: قيمية، قومية، وجدانية، جمالية. * كاتب وناقد مصري Mostafa_ateia123@yahoo.com