×
محافظة المدينة المنورة

العالم الإسلامي يبحث اليوم في جدة جريمة استهداف الحرم المكي

صورة الخبر

لا تبدو الأيام التي تفصلنا عن نهاية «داعش» كثيرة، سيتهاوى التنظيم فجأة كما تهاوى الكثير من المشاريع والأنظمة والدول التي ماثلته من قبل، ومثله بالضبط ستبقى خرائبه، مدناً تاريخية محطمة، مجتمعات ممزقة ومتحاربة، ذاكرة جمعية مُتخمة بالفواجع والآلام، كراهية متبادلة ووهناً عظيماً في كل ثقة مُتبادلة، حتى بين أبناء العائلة الواحدة. لقد كانت التجربة «الداعشية» تتويجاً لما لم نكن نستطيع أن نصدقه عن قدرة مجتمعاتنا، مثلها مثل غيرها، على إنتاج الفظائع. لم يكن «داعش» الذي سيخلف كل هذه الأطلال، مجرد نتيجة لتعاضد سلوكيات النظامين البعثيين في سورية والعراق وعُنفهما، وليس فقط النتيجة الطبيعية لتراكم المظلومية السُنية خلال العقد ونصف العقد الأخيرين، بل هو، إلى كل ذلك، بأيديولوجيته وخياله وخطابه، امتداد طبيعي وموضوعي لما أسسته الأحزاب والتيارات الإسلامية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية حتى الآن. بمعنى ما، هو النتيجة الحسابية لرفض حاكمية الناس وعدم الثقة بقُدرتهم على تحديد مصائرهم والمسؤولية عنها، وعلى منح رجال الدين والنُخب الثيوقراطية مكانة أرفع من مكانة العوام، وجوهراً في البحث عن الحلول الممكنة لأزمات مُجتمعاتنا وأحوالنا في الماضي لا في الحاضر والمستقبل، وعن الانفصام الذي أرادته هذه التنظيمات بين «الإسلاميين» وعموم المسلمين ومجتمعاتهم، إن لم نقل عن كامل البشر، وهو انفصام روحي وثقافي وسلوكي وأخلاقي، يتم برفعها الشرعية عن الحياة العادية الطبيعية، وحصرها الرفعة والأصالة بـ «فئة ناجية» بعينها، هي عصبة الإسلاميين المُتمايزين عن باقي المُسلمين والبشر. تُصر الغالبية المُطلقة من الحركات الإسلامية على أن «داعش»، وإن طابقها خطاباً ورؤية، فإن تجربته خروج تام عن منظومة الإسلام السياسي العامة. يشبه ذلك بالضبط ما كانت تتبادله التنظيمات الشيوعية والقومية عن بعضها، وعن التفرعات الأكثر راديكالية عنها. وكان يحصل هذا بدرجة أكثر سذاجة، حين كانت تتبرأ من أجهزة العنف المُخابراتية وتنظيمات الإرهاب الثورية التي انفرزت عنها هاتان الأيديولوجيتان الشيوعية والقومية، فهي لم تُخبر أحداً يوماً لماذا كانت مثل تلك الأجهزة والتنظيمات الرهيبة تنفرز عنها فقط، ولماذا لم يشهد الواقع تجربة واحدة قابلة للاقتداء مفروزة عن هذه الأيديولوجيات. لا يحتاج الإسلاميون إلى مُحاججة عميقة لتأكيد الترابط العضوي بينهم وبين التجربة «الداعشية»، وما ادعاؤهم بوجود تجارب إسلامية ناجحة في تُركيا وتونس والمغرب سوى تأكيد على ذلك، لأن هذه التجارب نجحت في شكلٍ نسبي فقط إذ اعتمدت صيغاً تأخذ في اعتبارها العلمنة المتينة في الدولة ونظام الحكم في تركيا، والملكية الراسخة والدستورية المضبوطة في المغرب، وعوائد التحديث البورقيبية في تونس. وهي مُنتجات لا يُخفي الإسلاميون رغبتهم في تحطيمها، لو استطاعوا، فإذا ما تحطمت لم يعد إسلاميو هذه الدول يختلفون كثيراً عن نظرائهم في باقي التجارب. مثلنا سيجلس الإسلاميون على أطلال «داعش»، الإسلاميون الذين ليسوا أحزاباً سياسية وتنظيمات ميليشياوية فقط، بل أيضاً دُعاة ومفكرون وخُطباء والملالي وسياسيون مُستقلون وتجار ورجال أعمال، لكنهم لن يعترفوا قط ولو بدورهم النسبي في إحداث هذه الخرائب، ولن تندر المُحاجّات التي ستقول أن عدم قبول دولنا ومجتمعاتنا بإسلامهم السياسي، هو ما أوصل الحال الى التجربة «الداعشية»، في مُطابقة تامة مع حجة نِظام الأسد «إما نحن أو داعش». لقد جاءت هزيمة الناصرية عام 1967 بعد عقدين فقط على هزيمة التجربة النازية الألمانية، وبالضبط كما حطمت الأولى الأوهام العرقية والتوسعية والوحدوية للقوميين الألمان، فهذه الأخيرة كان يُفترض أن تفعل الشيء نفسه مع القوميين العرب. أقر الألمان بفظاعة ما كان بعضهم يؤمنون به، ودخلوا في تجربة عظمى لإعادة قراءة التجربة والذات، وبكل شجاعة وموضوعية فككوا الأسباب التي أدت بهم إلى ذلك، وحولوا عملية تحطيم «الجرثومة القومية» إلى بنية تحتية لكُل شيء، من المناهج التربوية لطُلاب المدارس وحتى برامج الأحزاب السياسية. بذلك احتاج الألمان أقل من عشر سنوات ليفوزوا بكأس العالم، وأقل من نصف قرن ليعيدوا توحيد بلدهم وشفاء مجتمعهم، وأقل من ثلاثة أرباع قرن ليعيدوا تأسيس معجزتهم الاقتصادية والديموقراطية التي لا تُضاهى. على العكس من ذلك تماماً، بنت الناصرية صرحاً من الخطابات والتبريرات والشكوك، وأتخمت مُجتمعها بسيلٍ من الخرافات، لتمهد الطريق للتجارب الصداميّة والقذافيّة والأسديّة، حيث السلوك الراهن لنظام الأسد هو التتويج الأعلى لمسيرة الإنكار تلك. وهل هناك أكثر من خيطٍ رفيع بين الناصرية والإسلام السياسي؟! لكن كيف لنا أن نعترف ذلك الاعتراف، ونحن لم ننتج ما يُعتدّ به منذ الحروب الصليبيّة التي ستحل ذكراها الألف قريباً؟     * كاتب سوري