×
محافظة المنطقة الشرقية

موهبة تطلق مبادراتها بمعرض الكتاب

صورة الخبر

منذ الصفحة الأولى، يضع الكاتب الألماني مارتين موزباخ قارئه، ضمن دهاليز الحبكة السردية المتقنة لروايته «أمير الضباب»، الصادرة بترجمة كاميران حوج، عن مشروع «كلمة» (هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة). تبدأ الرواية بافتراض أننا نعرف البطل، حق المعرفة، كما قد يظن الكاتب الذي يكشف خفايا وأسرار بطله الرحالة والمغامر الألماني تيودور لرنر (1866 - 1931)، بالتدريج. فمن هو هذا الرحالة الذي خصص له الكاتب الحائز جائزة غيورغ بوشنر، هذا العمل الذي رأى فيه النقاد «متعة ذهنية»، وفق تعابيرهم؟ يعود موزباخ إلى نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كي يروي حكاية لرنر الذي كان يكتب مقالات عن الحرائق، تحديداً، في صحيفة برلين المحلية. لم يكن يحب هذا العمل. لكنها الضرورة. وقد قاده حظه العاثر ليختص في وصف الحرائق. كتب عن 11 حريقاً، «نالت تقاريره المبهرة إعجاب هيئة التحرير التي اعتبرته خبيراً في مجال الحرائق». لكنه كان يتساءل: هل عليه أن ينتظر احتراق برلين عن بكرة أبيها حتى يكلف مهمة أخرى؟ بهذه النبرة التهكمية يمضي موزباخ في تدوين سيرة بطله الذي يتطلع إلى ما هو أبعد من مقر الجريدة المغمورة. يلتقي صدفة بالسيدة المجهولة التي توقظ لديه حلم اكتشاف عوالم جديدة والسير على خطى كريستوف كولومبوس، وغيره من كبار الرحالة والمستكشفين. صحيفة برلين تتحمس للفكرة، فهي كانت تتابع أخبار المهندس أندريه الذي انطلق في رحلة بمنطاد راغباً بالطيران فوق القطب الشمالي. لكنه تاه في جليد القطب وانقطعت أخباره. الصحيفة كانت، آنذاك، المصدر الرئيس للأخبار، وربما كشفت الرحلة المنتظرة عن أخبار جديدة ترفع رصيدها. تجهز سفينة الصيد المتواضعة هيلغولاند لهذه المهمة المبجلة. وكما هو متوقع، فإن حظ لرنر العاثر سيقوده إلى جزيرة الدببة المعزولة في القطب الشمالي، «المرمية كقطعة معتمة في مرآة لامعة. تحرسها روح البحر»، وشعبها، شعب الجزيرة، هو «سرب من الطيور البيضاء». هناك سيكتشف لرنر أنانية طاقم السفينة الصغير، وسيخوض سجالات عقيمة مع طاقم سفينة عسكرية روسية رست، أيضاً، على شواطئ الجزيرة، وراح طاقمها يستعرض قوته، وأحقية روسيا بهذه الجزيرة. أخبار خلافات الطاقمين الألماني والروسي حول ملكية الجزيرة تصل إلى المراكز العليا في الدولتين، وتتم مناقشة الموضوع على أعلى المستويات الديبلوماسية، وهو ما يتيح للكاتب فسحة كي يهجو السياسيين، ويوجه نقداً لاذعاً للسياسة التي لا تحقق مصالح المواطنين بمقدار ما تعرقلها. يعود لرنر إلى البر خائباً، لكن سالماً. يستمر في الانجذاب إلى مكائد السيدة الماكرة التي أوقعته في شباك لم يستطع الفكاك منها. يتتبع نصائح السيدة التي تميل إلى التخطيط لعمليات وهمية، لتتسلى وتتظاهر بقربها من المجتمعات الراقية، وهي بذلك تورط البسطاء من أمثال لرنر الذي طمح إلى أن يكون كاتب رحلات بما أنه يتقن فن الكتابة، «فكُتّاب الرحلات يمتطون ظهور الأفيال لصيد النمور، ويدوّنون أوراقهم على بصيص السراج الخافت، ويرفع لهم القراء في الوطن أسمى آيات الإجلال والإكبار». أحداث ووقائع كثيرة يرويها الكاتب الألماني عن بطله الذي لا يمل من الحلم بالعظمة والخلود، غير أن كل الدروب تغلق في وجهه، ولعل فضيلته الأساس تكمن في المحاولات التي لا تعرف الاستسلام. هو ودود ومندفع وسرعان ما يتورط في إغراء النداءات المجهولة التي تقوده إلى عكس ما هو متوقع. ولا يكتفي موزباخ باستعراض المواقف والحالات التي يمر بها بطله، وإنما يمنح كل موقف بعداً ذاتياً وتفسيراً خاصاً به. والواقع أن ما ذهب إليه النقاد من أن رواياته هي لـ «النخبة» تتجسد، هنا، بهذا المقدار أو ذاك. «أمير الضباب» تأتي كنص يمزج بين المنحى التاريخي الفلسفي، وبين الطابع القصصي المشوق، فهي مليئة بالاقتباسات والإحالات والاستنتاجات، كما أن حوارات الشخصيات تضج بالحكمة والحس الفكاهي على نحو لا يتناسب مع مستواها الثقافي بمقدار ما يعكس مزاج الكاتب ذاته وثقافته وخبرته. وهو يغلف كل فقرة أو عبارة بلمحة ذكية وبدقة الملاحظة، ناهيك عن بلاغته اللغوية وقاموس مفرداته السخي. وحتى على مستوى الوصف فإنه يمضي نحو المجاز والصور المتخيلة أكثر مما يقدم وصفاً واقعياً، محايداً، إذ يكتب مثلاً في وصف عيني إحدى الشخصيات: «أحياناً تكون عيناه ذابلتين كزبيب متغضن، وأحياناً تبدوان حادتين وثاقبتين مثل عيني فأرة في مطلع العمر». حين نال موزباخ جائزة بوخنر، وهي أرفع وسام في الأدب الألماني، برر القائمون عليها منحه هذه الجائزة بالقول إن موزباخ يجمع في أعماله بين «الأسلوب الراقي الفخم والمتعة القصصية وحس الفكاهة». هذه السمات تتجلى في «أمير الضباب» التي تستحضر أجواء الحياة الألمانية قبل حوالى قرن، وتستعيد روح الثقافة المحلية ورائحة الأمكنة وضجيج الحياة عبر عيني البطل تيودور لرنر. تفاصيل ما يحدث في مكتب الجريدة، وفي شوارع برلين ومدن ألمانية أخرى، ووصف المقاهي والنزل، ومشاهدات السفر بالقطار، والجلوس في مطعم، وخوض الحوارات مع السائقين والباعة والندل... كل هذه الأجواء تشكل فضاء مغرياً يجوبه قلم الكاتب كي يرسم سيرة متكاملة للبطل تيودور لرنر. والملاحظ أن أعمال موزباخ التي تحظى باحتفاء نقدي لافت، لا تحقق نجاحاً مماثلاً لدى القارئ الذي يعزف عن رواياته بسبب «ضخامة حجمها وأسلوبها الصعب»، وفق اعتقاد النقاد. وإذا ما قورنت أرقام مبيعات رواياته بغونتر غراس، مثلاً، فإنها ستكون هزيلة، إذ لا يتجاوز عدد النسخ ستة آلاف نسخة، بينما أعمال غونتر غراس، أو إلفريده يلينك تبيع أكثر من مئة ألف نسخة. أصدر الكاتب حوالى سبع روايات. كتب أولى رواياته عام 1983 في عنوان «الفِراش»، ثم جاءت «حديقة روبرت»، و «حي فست إند» و «التركية» و «ليلة طويلة». وفي عام 2001 نشر موزباخ روايته «أمير الضباب»، وصولاً إلى روايته الأخيرة «الزلزال». أمير الضباب