إن الباحثين في مجال الأدب العالمي يصنفون الأدب الإسباني بانتمائه للمدرسة الواقعية الساخرة والذي يتم الجمع فيه ما بين الواقعية والسخرية من الواقع، ولقي الجنس الروائي في إسبانيا مكانة مرموقة نظراً لحجم الأعمال الروائية التي لقيت قبولاً من المهتمين, بل وصلت أحياناً إلى درجة العالمية، ومن السخافة الحديث عن الأعمال الروائية العالمية دون التطرق إلى واحدة من أفضل ما أنتجه الأدب الروائي الإسباني لواحد من أشهر رواده, الأمر يتعلق برواية (دون كيخوت) للروائي الإسباني (سيرفانتس)، ولقد كتبت عن (دون كيخوت) دراسات كثيرة في مختلف أنحاء العالم، وسوف يظل يكتب عنها وعن تأثيرها في الأدب العالمي إلى اليوم. لقد مر قرابة عقد من الزمان على احتفال العالم اللاتيني عموماً والإسباني على الخصوص والأدب العالمي على مرور الذكرى 400 لولادة الملحمة الروائية (دون كيخوت) وكانت سنة 2005 سنة الاحتفال بذكرى صدور الطبعة الأولى من العمل الروائي الملحمي (دون كيخوت) للكاتب الإسباني الشهير (سيرفانتس)، كان لأعمال (سيرفانتس) أثر كبير على القراء، إذ تتمتع هذه الأعمال في الدول الناطقة بالإسبانية على وجه الخصوص بشهرة كبيرة لكونها تمثل الرواية الأصيلة، التي يعترف الكثيرون بفضائلها الأدبية وهدمها للواقع، فهي تعدّ بداية التطور على مستوى البنية في الرواية كنوع أدبي ساهم (سيرفانتس) في إثرائه. ومن المثير للاهتمام أن يعود فضل ولادة أكثر الروايات شهرة في عالم الأدب إلى مطلب اجتماعي، حيث يعتبر دارسو إبداع سيرفانتس أنه اتّجه إلى نقد روايات الفروسية والروايات الرومانسية القديمة، ولقد تسبب (دون كيخوت) في موت تلك الروايات الرومانسية، وأنجب الرواية الجديدة، فمن يومها تخلّى الأدب الروائي ونزل إلى مستوى الحياة العادية والواقعية، وخاطب الإنسان كند له وكصديق مهذب مرح، لقد كانت سخرية (سيرفانتس) في (دون كيخوت) سلاحاً مدمراً للقيم البالية وأداة للتغيير والإصلاح، لذلك يعتبر عنصر السخرية واحداً من أهم الجوانب التي جعلت من (دون كيخوت) عملاً متميزاً فريداً من نوعه، وقد لاقت الطريقة التي استخدمها (سيرفانتس) لإشاعة المرح والضحك من جهة، ومحاولة منه لإصلاح المجتمع من منظور الكاتب من جهة أخرى قبولاً من جانب القراء والمفكرين. وتدور أحداث رواية (دون كيخوت) حول نبيل إسباني ناهز الخمسين من العمر ويعيش في إحدى قرى (لامانشا) وقد أمضى معظم وقته في قراءة الروايات الخيالية التي كانت واسعة الانتشار في هذا العصر وتدور أحداثها حول الفروسية والبطولة والأعمال الخارقة التي يقوم بها (الفارس)، ويطلق اسم (الفارس الجوال) على هذا الفارس، لأنه يقوم دائماً بالترحال من مكان إلى مكان سعياً وراء مغامرات جديدة أو بالأحرى بطولات جديدة، أو القيام بأعمال من شأنها تحقيق رغبة محبوبته، والتي دائماً ما تطالبه بأعمال لا يستطيع إنسان عادي القيام بها، فالحكاية جرت بحيث أن (سيرفانتس) الذي فكّر بأنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، مجبراً الجميع على السخرية من ذلك الفارس النحيل الغريب الأطوار والمثير للشفقة، حقق غايتين معاً أي أنه عالج معاصريه من المحبة الفصامية تجاه الفروسية كظاهرة اجتماعية من جهة ومن جهة أخرى قام بالمزج ما بين ما يبدو غير قابل للمزج السخرية والواقعية، الشك اليقظ والإيمان بالقدرة في الأحلام الرومانسية على التحقق. والبطل الرئيس في هذا العمل نبيل إسباني ريفي، نبيل فقير ومفلس وعجوز كل ما لديه حقيقي، ولكن لا نفع في كل ذلك في الوقت نفسه. وعائلته لا تتّسم بالبطولة، اتّخذ لنفسه لقب (دون كيخوت) في نهاية الأمر، كذلك المنطقة التي يعيش فيها النبيل عبارة عن إقليم ناءٍ مهمل ومقفر من أقاليم وسط إسبانيا، يمتد من تلال (طليطلة) حتى القمم الثلجية لجبال (سييرّا- نيفادا)، يرافق (دون كيخوت) في تجواله فلاح يحمل أسلحته والذي يعطي لسيده لقباً غريباً هو (الفارس الحزين الطلعة). لقد تأثر (دون كيخوت) بهذه الروايات حيث وصل تأثره إلى درجة الشغف بها شغفاً وصل إلى الحد الذي جعلها تسيطر على عقله وتفكيره سيطرة كاملة، فأصبح يخلط بين الواقع والخيال حيث أصبح يرى أحداث هذه الروايات كحقيقة واقعة لا شك في صحتها ويحاول محاكاتها أو حتى التفوق عليها، كما أصبح يرى العالم من خلال المنظار التي تقدمه, حتى فقد القدرة على رؤية الواقع كما هو، أو كما يراه الآخرون، وهكذا دفعت هذه الروايات (دون كيخوت) إلى حافة الهوس والجنون، فخرج يمتطي جواده، بصحبة خادمه (سانشو) ممتطياً حماره، ويحمل رمحه مرتدياً درعه، ومتخيلاً نفسه ذلك (الفارس الجوال) يجول العالم ليقهر الظلم ويدافع عن الضعفاء والمظلومين. ورغم الطابع الهزلي في السخرية من الواقع فقد حرص (سيرفانتس) على ألا يبدو بطله إنساناً مجنوناً لا يستطيع التفكير، بل جعله قادراً على تقديم الحجج لإقناع نفسه وإن كانت المقدمات التي يبدأ منها خاطئة دائماً فنجده حائراً يفكر كيف يعبّر عن خضوعه التام لمشيئة حبيبته (دالسينيا) وهي حبيبة لا وجود لها إلا في خياله، وكيف يكفر عن أخطائه لكي ترضى عنه، لكن ما أكد عليه (سيرفانتس) أن فارسه إنسان تتسلط على عقله أوهام معينة، وإن لم تنف عنه صفة الآدمية، (فدون كيخوت) لا ينقصه الذكاء أو الشهامة أو الإقدام وهي لا شك صفات تثير إعجاب القارئ وتقربه منه، والقارئ إذ يضحك على مغالاة هذا الفارس في محاولته تقليد سلوك عصر من الفروسية قد مضى وولى. وتكمن السخرية في التناقض بين السيد وخادمه فهذا التناقض من أبرز سمات هذه الرواية، بل إنه ليصعب أن نتخيل (دون كيخوت) دون خادمه فهما يمثلان إلى حد كبير وجهين أساسيين للطبيعة الإنسانية رغم نتاقضهما في كثير من الأحيان، فإذا كان (دون كيخوت) يمثل العقل (فسانشو) يمثل الجسد، وإذا كان (دون كيخوت) يعبر عن مثالية غير واقعية، فإن (سانشو) يمثل فطنة الإنسان الغريزية التي تسعى إلى إشباع الحاجات الأساسية للإنسان، ويمكن القول إن التناقض بين الاثنين يولد نوعاً من السخرية لا ينصب على واحد فقط منهما دون الآخر.