أمامنا على حائط الزمن المائل بنا أشهر معدودات قادمات، ويكون قد مر على احتلال القدس الشرقية بأسوارها ومداخلها ومقدساتها نصف قرن من الزمن، وهي لا تزال في أسر وحصار ترزح تحت حملات وموجات قاسية من الاضطهاد والاستيطان والتهويد، مما أفقدها أو كاد ملامحها العربية الإسلامية، وجعل أهلها الشرعيين يقضون عشرات السنين العجاف ما بين ظلم واستلاب وتهديد وبين قتل ومصادرة وتشريد. إلا أن القدس لم تفقد صبرها، فصبرت صبر سيدنا أيوب، كما لم تفقد الأمل في الخلاص من الاحتلال البغيض، حيث ظلت على الدوام تنتظر ما ينعش روح قداستها، ويبلسم جراح قلبها المهموم، وينير عتمة قلقها وخوفها بنور يسطع من دم شهيد، فتشعر بأن الفجر قادم لا محالة، وأن التحرير آت بعد حين طال زمن القيد أو قصر. فها هي القدس الصامدة الصابرة في وجه الرياح العاتية الماكرة، ترفع نظرتها الدامعة إلى السماء مبتهلة داعية، مؤملة في دعوةٍ مستجابة، لا يكل لسانها من الدعاء، ولا يمل قلبها الانتظار، بل هي أصبحت مع مرور الأيام القاسية تحترف الانتظار، وتتقن صنعه، فلا يتسلل إلى وجدانها يأس من ظهور صلاح الدين الجديد يأتي بحطين ثانية، ويحدو بسيفه فرسانه وأعوانه نحو مدينة الإسراء التي أحب، وعينه على أسوارها العالية وأبوابها العريقة التي تتحرق عتباتها شوقا لرؤية رايات خفاقة تأتي من بعيد، وعن حلمها بالنصر لا تحيد. ولعل سائلا يسأل: من أين تستمد القدس الحزينة كل هذه القدرة على الصمود، وكل هذا الأمل في التحرر من القيود؟ لأنها القدس وللإجابة عن هذا السؤال، تبقى القدس وحدها دون غيرها تمتلك بلاغة الرد ووضوح الإجابة، ما دامت ترى في مقاومة أهلها وبسالة مواجهتهم لإجراءات الاحتلال الجائرة ما يثلج صدرها، ويدعم صبرها، ويشد من أزرها، وكيف لا تستمد القدس المزيد من القدرة على الثبات وتصليب الإرادة، وشحذ العزم وهي تختزن في الذاكرة والوجدان زرع وحصاد الانتفاضة الأولى والثانية والثالثة، وبرصيد شعبي يجعلها تشعر بأنها تعيش فوق الاحتلال لا تحت مطرقته؟ " كيف لا تستمد القدس المزيد من القدرة على الثبات وتصليب الإرادة، وشحذ العزم، وهي تختزن في الذاكرة والوجدان زرع وحصاد الانتفاضة الأولى والثانية والثالثة، وبرصيد شعبي يجعلها تشعر بأنها تعيش فوق الاحتلال لا تحت مطرقته؟ " كيف لا وهي تعوّلُ على أبنائها وأبناء فلسطين، كل فلسطين، الكثير الكثير من التحدي والتصدي لقوى الغزو والاستيطان والتهويد؟ عندما ترتفع القدس على جراحها وترفع رأسها الذي لا يقبل الانحناء، وتنظر إلى الجهات الأربع في هذا العالم، لا تعدم استشراف أمل ما في جهة ما يمكن أن يصحو فيها شعور أو يستيقظ فيها ضمير، أو تحرك سكونها نخوة لنجدةٍ أو إنقاذ لمدينة مقدسة على الأرض عزيزة على قلب السماء، مدينة الأنبياء والشهداء. من هنا وهناك، تثبت القدس قدرتها المستمرة على صنع الأمل واحتراف الانتظار، ما دامت تؤمن بجدوى الانتظار، وهي ترى من حولها حرائر مرابطة يتقدمهن رجال ولا كل الرجال، وما دامت لم تفقد أملها في هذه الأمة التي سيبقى الخير فيها إلى يوم القيامة. من الواضح تماما أن القدس وعلى مدى نصف قرن من زمن الاحتلال لم تمل من الانتظار فماذا نحن منتظرون؟ المطلوب من الآن وقبل فوات الأوان صحوة عربية عارمة وشاملة، لا صحوة وجدانية انفعالية لا تلبث أن تخبو جذوتها وتبرد، إنما صحوة فكرية تعمل على شحذ الأذهان وتجييش العقول من أجل إنقاذ القدس مما هي فيه وبكل الوسائل والسبل. لنعتبر القدس قضية القضايا العربية التي لا يجوز تأخيرها أو تأجيل الإعداد لها، وحشد الطاقات والهمم من أجلها، ولندرك قبل أن نطالب أحدا بالإدراك أن القدس مفتاح السلام أو الحرب في المنطقة العربية التي يراد لها أن تبقى نائمة حالمة على صفيحٍ ساخن. لتكن القدس المضطهدة والمطعونة في خاصرتها والمهددة في هويتها وعراقة تاريخها، لتكن قضية العرب الأولى، نعمل أنظمة وشعوبا من أجل إنقاذها من جبروت الاحتلال وطوفان الاستيطان وقرصنة التهويد. بالرغم من كل جراح الفتنة والاحتراب والتدابر لنعترف أمام استصراخات القدس بأننا لسنا أمة عاجزة مغلوبة على أمرها، كما يراد لنا أن نكون، لنعترف بأننا ما زلنا قادرين على الدفاع عن عروبة القدس وإسلاميتها، وبأننا لا نعدم طرقا ووسائل كثيرة تمكننا من أداء واجبنا نحوها، دون أن نظهر تهاونا أو ضعفا يقبل مساومة على شبر واحد من تراب بيت المقدس، أو على حجر أو زاوية من زوايا الأماكن المقدسة إسلامية كانت أم مسيحية. أين الملايين؟ " حتى يكتمل دفاعنا عن القدس ويتكلل بالنجاح، علينا أن نضع في أولى الأوليات نجدة أهالي القدس ودعم صمودهم وثباتهم على أرضهم وبيوتهم المستهدفة والمهددة، بكل ما نملك من طرق ووسائل وقدرات مالية هم في أمس الحاجة لها. " فالقدس الآن، وهي في قمة التحسب والقلق تريد منا أن نطمئنها بأن الملايين العربية والإسلامية رغم الجراح النازفة ما زالت قادرة على النهوض والتصدي لكل حملات ومؤامرات التهويد الصهيونية المتقنعة بالدين. وهذا يستدعي من جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وكل المؤسسات الرسمية والأهلية وسائر الاتحادات والنقابات والسفارات أن تؤسس غرف عمليات دبلوماسية وإعلامية تدافع أمام العالم بأسره وفي المحافل الدولية عن الحق العربي والإسلامي في مدينة القدس، وما قرار "اليونسكو" بنفي أي علاقة لليهود بالمسجد الأقصى المبارك إلا نواةٌ مركزية يجب أن تعتمدها لنبني عليها الشيء الكثير لصالح القدس في شرق العالم وغربه. والأهم من هذا وذاك، وحتى يكتمل دفاعنا عن القدس ويتكلل بالنجاح علينا أن نضع في أولى الأوليات نجدة أهالي القدس ودعم صمودهم وثباتهم على أرضهم وبيوتهم المستهدفة والمهددة، بكل ما نملك من طرق ووسائل وقدرات مالية هم في أمس الحاجة لها. علينا أن نقف مع أهالي القدس الصابرين، فلا نجعلهم يشعرون بأنهم وحدهم في المواجهة والتصدي، وبأن أمتهم قد خذلتهم، وبهذا نعلي من شأن انتفاضة القدس ونبث روح الأمل فيها فلا تمل الانتظار، وإن لم نفعل ما هو مطلوب منا وواجب علينا نكون لا نستحق القدس، وفي هذه الحالة لا قدر الله لا نستحق الحياة على الأرض.