تتقاطع العوالم السردية وتتداخل في المجموعة القصصية «عسل النون» (دار روافد - القاهرة) للقاص المصري محمد رفيع، وتلوح ملامح عالم قصصي يخص كاتبه، وينمو السرد عبر لغة تأخذ صيغاً مختلفة من التكثيف والإحكام. تحتشد المجموعة التي تضمنتها القائمة الطويلة لجائزة «الملتقى» للقصة القصيرة العربية في دورتها الأولى، بجملة من المصاحبات النصيَّة، التي تدفع بالسرد إلى أفق أرحب. فمن إهداء الولوج إلى ثلاث سيدات يظهرن بوصفهن مرتبطات بعلاقة حميمة مع المؤلف الضمني للعمل «ابن بحر»، الذي يحيل من خلاله محمد رفيع إلى عنوان مجموعته السابقة، وإلى الروح السارية داخل نصه. ثم التصدير الدال الذي يحيل إلى شخصية متخيَّلة داخل المجموعة بوصفها رمزاً للحكمة والحكاية؛ «حكائيل». ثم المفتتح المؤدي معنى داخل المسار السردي للنص، عبر استجلاء جوهر «النون»؛ مبتدأ الحكاية ومنتهاها: «يا نون/ يا حُبلى بنقطة التكوين/ يا قاع البئر. يا شوق المحبين المخبوء بالصدر/ يا نهداً أرضَعَني بنقطته...». تتشكل المجموعة من خمسة أقسام: «مكاشفة/ ما قاله حكائيل/ نرسيس الجديد/ كَلَل الكاف/ عسل النون». وتبدو النون ترميزاً على الأنثى في أشد حالاتها وهجاً، تحيل إلى الآخر المقموع، والمغوي في آن، المتمم للأنا/ الذكوري المشار إليه بالكاف. وكلاهما؛ «الكاف والنون» يشكل فعل المشيئة، ويصوغ العالم، عبر التماس الدال مع عالم المتصوفة الرحب. ويبدو حضور النون حضوراً للكاف من زاوية أخرى، ووجوداً إشارياً لأولئك المقموعين، الذين يجدون بلاغتهم الخاصة هنا. تتلاحم النصوص القصصية التي تشكل القسم الثاني، وتأتي امتداداً للقسم الأول، فثمة سارد متورط في الحكاية، منذ طفولته، وذاكرة تمزج الواقعي بالخيالي، وأب وأم مكلومان على الراحلين، وطفل وطفلة يعيدان الألم المستمر والبهجة العابرة من جديد، ولغة مجازية رامزة تحيل السيرة الذاتية المتناثرة في جنبات الحكاية إلى سرد متجانس ومحكم. فالولد الذي تصدمه سيارة تجعله على شفا الموت أو أقرب، يحكي فيما بعد عن أبيه وأمه والسماء التي كانت رحيمة: «كيف لعينك الوحيدة أن تبكي ولداً حجز تذاكره ووقف على الرصيف ينتظر؟ وأمه أمامك جزعة تدور على الأرضية كالمكوك وتصطدم بالكرسي والحيطان، هل هذه هي طريقتها للهبوط إلى قاع العالم؟ على سلم من لوعة؟ الرضيعة على بعد ثلاثة أميال تملأ فراغ البيت صراخاً، والجوع يفتك بها، أي ضوء يأتي لعينك الوحيدة التي وارَت طفليك السابقين؟ أي حريق شبَّ في العروق؟ عندما سمعت أن دماء ولدك هجرت شرايينها وصارت تتجول في رأسه بحرية وتمدده كبالون الأحلام» (صـ 14). تشكل الحكايات السبع مجمل الرؤية السردية في القسم الثاني، ومعها المقطعان البديعان «ما قبل الحكايا/ غيبوبة الجنة»، متتبعة حياة السارد/ البطل على نحو إشاري، يختلط فيه الحقيقي بالمتخيل. فالصغير ابن الرابعة والنصف من العمر، لم تزل الغيبوبة تلاحقه، وتجعله يحيا في الجنة دون غيرها، والصيَّاد لم يزل رحيماً، والعرَّاف لم تمنعه تنبؤاته من الوقوع في الحب، والشجرة لم تستطع تسيد العالم طويلاً. أجواء فانتازية بامتياز، تحوي منطقها الجمالي الخاص، الذي يؤسس الدلالة الكلية معتمداً على المجاز والرمز في تطور لافت في أعمال رفيع الإبداعية: «تجبَّرت الأشجارُ في الأرض وجيَّشت الجيوش وتحاربَت في ما بينها على الماء ونبذت البحار المالحة، حتى استوطن الحوتُ فيها واستعبد الشجرُ الحيوان، فلما غطت المياهُ الأرضَ كاملة، لم يترك لأخيه الحيوان موطئ قدمٍ فغرقت الكائنات واستوطن بعضها الفروع والأغصان، فكان الشجر يأخذ من أولاده الصغار لقاء ذلك، فيهلكهم ويدفنهم تحت قدمه إذا جاعت جذوره، وفرح الشجر بما عنده، وقال كيف أهلك والماء من حولي،...» (صـ 31، 32). في القسم الثالث؛ تبدو تيمة التحول مهيمنة، فالرجال يتحولون إلى إناث، والعكس، ويمد الكاتب الخيط الواقعي على استقامته، ليخلق فنتازيا تخصه، فثلاثة أيام هي الحد الفاصل بين النوعين، والتحول يتسع، ويتحول العالم إلى كيان من الهويات الشائهة. حال من المسخ الكافكاوي بروحه المأسوية، لكنها ساخرة هنا، حتى يبلغ الحدث القصصي ذروته عندما يحب الدكتور «آدم» مقلوبَه «ليلَك»، وحينما يريد أن يقابلها يرى الفيديو الذي صوَّره لنفسه حين تحوَّل إلى «ليلَك»، ويَمضي على هذا شهور حتى ينهكَه الحبُ، وتصبح مساعدته/ مقلوبة في حيرة شديدة، وحين يموت تكتب على شاهد القبر: «هنا يرقد آدمُ وليلك». ينفتح النص هنا على الميثولوجيا الإغريقية، عبر استدعاء لعنة نرسيس في عشقه لذاته الذي يفضي به إلى الموت، وإن كانت «إيكو» في الأسطورة منفصلة عن «نركسوس أو نرسيس»، بينما هنا نجد «نرسيس/ آدم» متصلاً بمعشوقته «ليلك» التي صارت ذاته الأنثوية المغايرة. ترتبط القصص الأربع في «كلل الكاف» بوحدة فنية وجمالية، تشير إلى مدلولات الشقاء، والمعاناة السرمدية، والعزلة والاغتراب الشعوريين، والبحث عن تناغم مفقود في عالم مسكون بالتناقضات. فمِن السجين الذي يتمثل السجَّان ثم يقتله ويحل محله في «وحده لا يموت»، إلى العالم المتغير المُعقَّد في «زمن الهولو»، إلى البطولة والفداء في «هدية المليز»، وصولاً إلى التماس مع تناغم بديع في «سيمفونية الله»، وإن ظلت هذه الرؤية التصالحية للعالم بمنحاها الرومانتيكي مهيمنة على فضاءات هذا القسم. ثمة أربع قصص تلوح في القسم الأخير، تكشف عن حال من الاغتراب الذاتي بامتياز، حيث يفشل الفرد في أن يكون ما يريده. فالراهبة في «الهاتف» لم تحقق حلمها بالإنجاب رغم تركها الرهبنة والدير. و«فتاة التذاكر»؛ لم تستطع أن تتزوج رغم تقريبها بين المحبين في «الآنسة كيوبيد»، والعجائز الثلاث من كثرة اجترارهن الألم ينسين أي حكاية مؤلمة تخصهن؛ في «عشاءات». تبدو «عسل النون» مجموعة مختلفة ومتميزة في آن واحد، يسعى كاتبُها صوبَ التعبيد لمسار قصصي يخصه، يحيل ويرمز، ويستعير الميثولوجيا، ويستنفد طاقات المكان، ويستفيد من الحياتي، ويجعله أساساً لجدل الذاتي والموضوعي في نص يحوي صيغاً سردية متنوعة، وبديعة في آن.