لطالما أَلْحَحْتُ على الأستاذِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدالعَزِيْزِ الخُرَيْدَلِي لمعرفتي الواسعةِ به الممتدَّة عقوداً بأن يكتبَ سيرتَه الذاتيَّة تجاربَ ومبادراتٍ وإنجازاتٍ اجتماعيَّة وإنسانيَّة باعتبارها إضاءاتٍ وطنيَّة؛ انطلاقاً من ريادته بمجاليها الحكوميِّ والأهليِّ، ومن تميُّزه بأسلوبٍ تحريريٍّ موضوعيٍّ وصادقٍ فيه مع نفسه ومجتمعه، وبجرأةٍ أدبيَّة وحواريَّة محفِّزة، وألححت عليه وآخرون من عارفيه ليكتبَها فكان يسوِّف لتشعُّب جهوده عمليّاً وفكريّاً، حفزتُه بعرضي مساعدته بتحريرها؛ لينطلقَ بكتابتها لا تعوِّقه مراجعةٌ لغويَّة ولا ترتيبٌ زمنيٌّ، ولا أحسب مقالةً بمساحتها الضيِّقة قياساً بعطاءاته الواسعة والرائدة بمجالاتها الاجتماعيَّة والإنسانيَّة والتطوُّعيَّة ستغطِّي سيرتَه الذاتيَّة، ولكن بأملٍ أن تحفزَه ليكتبَها بنفسه. حيثُ تعدُّ الخدمة الاجتماعيَّة امتداداً للرعاية الاجتماعيَّة باتِّخاذها صوراً متعدِّدة قامت بالإنسان ولأجله بدافع الخير لمعالجة ضنك العيش تخفيفاً للمعاناة الإنسانيَّة، فإنَّ الجهود الحديثة الرائدة في ذلك تتبنَّى المساعدة بالتنظيم وفق منهجٍ علميٍّ يحقِّق فائدةً أكبر؛ إذْ يعملُ الأخصائيُّون الاجتماعيُّون في ضوء سياساتٍ وإستراتيجياتٍ مقنَّنة ومتطوِّرة توجِّه جهودهم مبلورةً اهتماماتهم بخصائص النموِّ الإنسانيِّ والسُّلوك الفرديِّ، وسيكولوجيَّة المساعدة والتَّعاون والتَّفاعل، محرِّكةً لثقافة التَّنمية والتَّغير الاجتماعيِّ؛ لذلك تحوَّلتْ الخدمةُ الاجتماعيَّة من عمليَّة التنسيق للجهود لعمليَّة تبنِّيها متمثِّلةً بالعناية بدور الأخصائيِّ الاجتماعيِّ المسؤول عن إحداث التغيير في المجتمع المحلِّي، فبرز في بلادنا منهم روادٌ ترجموا عطاءاتهم واقعاً ملموساً منهم الأستاذ محمَّد عبدالعزيز الخُرَيْدَلِي بما امتلكه من حسٍّ إنسانيٍّ عزَّزه بقراءاته الواسعة وبخبراته الميدانيَّة التطبيقيَّة الرائدة، فجاءتْ انطلاقتُه مبكِّرةً في مجاله، فحينما اعتمدتْ بلادُنا تنميةَ مجتمعاتها المحليَّة بدءاً بعام 1380هـ بإنشاء مراكز التنمية الاجتماعيَّة الهادفة لذلك، زامنتْها بإنشاء معهد الخدمة الاجتماعيَّة في الرياض لإعداد الأخصائيِّين الاجتماعييِّن للنهوض بتوجُّهاتها. حينذاك حفزَتْ هذه التوجُّهات المستجدَّةُ على بلادنا الأستاذ محمَّد الخُرَيْدَلِي المولود عام 1361هـ في مدينة عنيزة ليغيِّرَ مسارَ تعليمه العام ملتحقاً بمعهد الخدمة الاجتماعيَّة فحصل على دبلوم الخدمة الاجتماعيَّة عام 1381هـ، ليعملَ أخصائيّاً اجتماعيّاً ومن ثمَّ كُلِّف مديراً لمركز التنمية الاجتماعيَّة بالأحساء عام 1384هـ فنهض بمجتمعها المحلِّيِّ بجهوده وعطاءاته العمليَّة والفكريَّة حفظتْ بذكرياتٍ وسمعةٍ يتناقلها معاصروه وينقلونها لمجتمعهم تقديراً وعرفاناً، بل وزرع فكراً تنمويّاً أحدث بمجتمعهم المحلِّي تغييراً مؤصِّلاً فيه مواطنةً حقَّة بتعايش وتعاون مواطنيه خدمةً لمجتمعهم ووطنهم. وحفزتْ توجُّهاتُه واقتراحاتُه في تقاريرِه ودراساتِه المقدَّمة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعيَّة لظهورِ فكرة الملاحظة الاجتماعيَّة بفصل الجانحين الأطفال عن السجناء لرعايتهم توعويّاً وثقافيّاً، فأُنشئتْ دارُ الملاحظة الاجتماعيَّة في منطقة الرياض عام 1391هـ ليكلَّفَ مديراً لها، فأصَّل هذا التوجُّه الاجتماعيَّ علميّاً وعمليّاً وارتقى بالدار منجزاتٍ في التغيير والتطوير لتُطبَّقَ الملاحظةُ الاجتماعيَّة في مناطق أخرى من الوطن. وعاد إلى عنيزة أخصائيّاً اجتماعيّاً بمركز الخدمة الاجتماعيَّة فيها فترأَّس لجنة التَّنمية الاجتماعيَّة موسِّعاً برامجها ونشاطاتها فكان دوره رائداً بنشأة روضات الأطفال الأهليَّة مستوعبةً معظمَ أطفال عنيزة ومتميِّزةً بعروضها الاحتفاليَّة السنويَّة، فانعكس تأثيرها إيجابيّاً عليهم تربويّاً وتعليميّاً، وتقاعد مبكِّراً عن العمل الحكوميِّ ليتفرَّغ للعمل الاجتماعيِّ التَّطوُّعيِّ في عنيزة فارتبط اسمه بالأعمال الإنسانيَّة والاجتماعيَّة بشتَّى أنواعها مشاركاً بتأسيس كثير من مشروعاتها الخيريَّة والتطوُّعيَّة والاجتماعيَّة في بداياتها وانطلاقاتها. وحينما تنادى طلاَّبُ الأستاذ صالح بن صالح -رحمه الله- لتكريمه تقديراً وعرفاناً بدوره التعليميِّ النظاميِّ السابقِ للتعليم الحكوميِّ، فكرة رفع رايتَها معالي الأستاذ عبدالله بن علي النعيم وأسهم الأستاذ محمَّد عبدالعزيز الخُرَيْدَلِي بدورٍ رائدٍ بظهورها إلى أن غدتْ صرحاً ثقافيّاً واجتماعيّاً باسم الجمعيَّة الخيريَّة الصالحيَّة لتقدِّم الخيرَ من خلال منظور حضاريٍّ ثقافيٍّ اجتماعيٍّ بلورتْه بمركز صالح ابن صالح الثقافيِّ المنطلق في 9 رمضان 1407هـ بإدارة الأستاذ محمد الخُرَيْدَلِي عضو المجلس التأسيسيِّ لإدارة الجمعيَّة الخيريَّة الصالحيَّة مترجماً أهدافَها من خلال نشاطات المركز الثقافيَّة والبحثيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة والرياضيَّة ومكتبته الرائدة بمحتوياتها المميِّزة لها عن المكتبات العامَّة، فأنشئتْ بها قاعةُ القصيم للمعلومات والوثائق وقاعةُ الدوريَّات العلميَّة والأدبيَّة، فشرفتُ بالإشراف على نشأتهما فانطلاقتهما في ضوء توجيهاته. وعلى الرغم من انشغاله عضواً بالجمعيَّة الصالحيَّة ومديراً لمركز صالح ابن صالح الثقافيِّ استمرَّ الأستاذ محمَّد الخُرَيْدَلِي عضواً فاعلاً في لجنة التنمية الاجتماعيَّة فأعدَّ باعتباره خبيراً في الشؤون الاجتماعيَّة دراسةً ضمَّنها مقترَحاً لإنشاء مؤسَّسة أهليَّة لرعاية المعاقين في محافظة عنيزة، وتابع مقترحَه حتَّى تبلور بجمعيَّة أهليَّة بترخيصٍ من وزارة العمل والشؤون الاجتماعيَّة فكان من أعضاء مجلس إدارتها المؤسِّسين، بل ورُشِّحَ مديراً للجمعيَّة حين ترخيصها عام 1418هـ لتصبحَ واقعاً ملموساً ومعروفاً يميِّزها على مستوى الوطن فيما وصلتْ إليه وحقَّقتْه بتوجُّهاتها ونشاطاتها الإنسانيَّة، وطوِّر اسمها لتكون حاليّاً: جمعيَّة عنيزة للخدمات الإنسانيَّة. وأودع الأستاذُ محمَّد الخُرَيْدَلِي أفكارَه وتوجُّهاتِه وخبراتِه وتجاربه وأهدافه كتابَه الراصد تاريـــخَ العمل الاجتماعيِّ بعنوان: ملامح العمل الاجتماعيِّ في محافظة عنيزة: إرهاصات وخطوات، من منشورات مركز صالح ابن صالح الثَّقافيِّ بطبعاته الثلاث وآخرها عام 1429هـ، فهو مصدر ومرجع في موضوعه، كما حرص الأستاذ الخُرَيْدَلِي على طباعة تفسير الشيخ العلَّامة عبدالرحمن ابن سعدي -رحمه الله- ومؤلَّفاتٌ أخرى للشيخ وأشرف على نشرها وتوزيعها بالمجان في المملكه وخارجها، وفي عام 1428هـ تقاعد الأستاذ محمد عبدالعزيز الخُرَيْدَلِي عن العمل في المجال الاجتماعيِّ، بعد خدماتٍ حكوميَّة وأهليَّة امتدَّتْ لنصف قرن من عمره أمدَّه الله بالصحَّة والعافية؛ وبذلك فهو يعدُّ بحقٍّ رائداً من روَّاد العمل الاجتماعيِّ ورمزاً إنسانيّاً تفانى وأخلص وبادر بشفافيَّة ووضوح وتجرُّدٍ وإنكارٍ للذات فجاءتْ بصماتُه ومنجزاتُه وخبراتُه وتجاربُه شواهدَ له في عموم الوطن، فهل سيكتبُ سيرتَه الذاتيَّة باعتبارها إضاءاتٍ وطنيَّة؟!!.